وكَما أنّ لِكلِّ سحابةٍ مطَرَها، فإنّ لِكلِّ زمانٍ:«هارُونَهُ». لا يُمكِنُ -بأيّ منطقٍ معرفيٍّ- أن تكونَ حكايةُ: «هارون الرشيد» المجيدةُ مع السّحابةِ صحيحةً، وأنْ يكونَ خطابُه المُنتَشي بتحدّي السّحابةِ هو الآخرُ صحيحاً، ذلكَ وأنَّ ل: «هارونَ» سُلطَانَهُ القاهرَ على المطرِ حتّى! الأمر الذي كانَ يفترِضُ على: «السّحابة» وَعْيهَا-بكلّ ذلك-، ودونِ أن تُكبّدَ: «أمير المؤمنين» عناءَ مخاطبتِهًا!، فجلالُ صوتِ: «أمير المؤمنين» لهو أجلُّ قداسةً مِن أن يذهب هباء لأذنِ سحابةٍ صمّاء! ومِمّا يجعلُ «سبحونةَ هارون» مع السّحابةِ أكثر تهافتاً هو أنّ: الخليفةَ: «هارون» قدّس الله سِرّهُ، ليسَ كأحدٍ مِن النّاس، بل هو ظِلّ اللهِ في أرضهِ. وهل أنّ مَن تكن هذهِ حالُهُ، يُمكِنُ له أنْ يبرحَ عتبات قصره المشيدِ، إلا مِن بعدِ أنْ يطمئنَ يقيناً لا شَكَّ فيهِ، بأنّ السُّحبَ قد انقشعت بكاملِ غيومِها، بحسبِ الإفادةِ المتحقّقةِ، إذ تأتيهِ مباشرةً، من لدن حراسّهِ الأشدّاءِ، وذلك أنّ: «هارون» كان قليلَ الثّقةِ بعرّافي أرصادِه! (وبخاصةٍ أنّ خالد الزعاق لم يكن قد وِلد بعد!) ومِمّا يشهدُ بأنّ الحكاية بكلّ تفصيلِ تشويقها، قد صُنعت كذباً، في ابتغاء أنْ تجعلَ مِن: «هارون» أسطورةً، ما ألفينَا عليه مدوّنات التأريخِ: «العبّاسيّ»، إذ جاءت فارغةً، بمعنى أنّها لم تذكر مطلقاً، بأنَّ ثمةَ ثوباً واحداً، للخليفةِ: «هارون» قد أصابَهُ البَلَلُ في يومٍ من الأيام، فضلاً عن أنْ يكونَ تُبّانَهُ (سروالهُ) قد تبلّل! مع الأخذِ في الاعتبارِ الاستثناءُ لِبَلَلٍ مِن نوعٍ آخر، ذلك أن التأريخَ لا يجيد التفريقَ بين بللٍ وآخر. ومهما يكن أمر حاسة الشّم لدى التأريخ، فلربما أن تحظَى هذه الحكايةُ، بشيءٍ مِن التّصديق، في حالِ حملناها لا على الحقيقةِ، وإنما بضربٍ من التجوّز مجازاً، ودفعنَا بها نحو قراءةٍ ترميزيّةٍ، مِن شأنِها أن تشي -دونَ تقديس للتأريخ- بما كانَ عليه: «هارون» من جبروتِ (التّحويش على كلّ شيءٍ) بمعنى أنه كانَ يقولُ، وهو مسترخٍ على أريكتهِ داخل قصره، ويومئُ للسحابةِ بأصبعهِ من الدّاخلِ: «أمطري حيثُ شِئتي فإنَّ خراجَكِ سينتَهي إلى خَزينتي وإلى خزينةِ ابنيَّ وأحفادِي مِن بعْدِي»! وبكلٍّ، فإنّي لأَستبعِدُ بالمرةِ مِن أن يعودَ: «هارون الرشيد» مرةً ثانيةً، ولئن عادَ غصباً، فإنّ عودتَهُ مشروطةٌ بأن يتقدّمَهُ: «أبو نواس» ولا كرامةَ حينذاك ل « أبي العتاهيةِ»! وبما أنّ التأريخَ ورجالَهُ لا يحظونَ عندي بأي تقديسٍ -باستثناءِ ما صحَّ من سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم- فيمكِنُني القول دونَ وجلٍ بأنّ: هارونَ لو كانَ فيهِ شيءٌ من خيرٍ لأمّت، ما كانَ قد خلّف ولدين يقتتلانِ على كرسيٍّ: «خشبيٍّ» دونَ أن يحفلا بالدّمِ الذي أريقَ بين يدي طُموحيهما للخلافة..! ولقد مَتّ: «المأمون» بصلةٍ للفرسِ، فنالَ جرّاء ذلكَ، حظاً من حياته الدنيا! في حين كانَ القتلُ بسيف العربِ من نصيب: «الأمين»، وليس بخافٍ أنّ قبضةَ ذلك السيف إنما كانت تنتهي بيدِ أخيه: «المأمون». وإذن.. فلا بدَّ وأن يكونَ: «المأمون» معتزليّاً نسخةً عتيقة من الليبرالية، وأن ينأى ب: «ابن حنبل» بعيداً عن سلطةِ السنةِ، حتى يحين ل:«المتوكل» أن يلعبَ دوره في المكر ثانيةً.