ما الذي يدفعك لفعل الخير؟ لا أعني هنا تلك الريالات التي تدفعها كصدقة لمتسول؟ ولا بعض الكلمات المنمقة التي تقولها في موقف معين، ما أعنيه هو تلك اللحظات النادرة التي تعرفها جيداً، اللحظات التي تشعر فيها بالصفاء المطلق في قلبك، بوهج ساطع من النور يقودك لتفعل ما ينبغي دون أن تفكر لوهلة في تكلفته أو الفائدة التي ترجوها من خلفه. تلك اللحظة الباهرة التي أشبه ما تكون بالوحي، بالهبة التي تختارك لتجعل منك إنساناً حقيقياً، تنفض كثيرا من الغبار والعفن الذي يعشش داخل نفسك مع تراكم الأيام، كم ستكون سعيداً إن اختارتك، وستكون أسعد الناس إن كررت زيارة قلبك. هذه قصة حقيقية عن فعل خير حقيقي كتبها قارئ لمجلة (ريدرز دايجست) الأمريكية وأوردها د. أحمد خالد توفيق في كتابه (شاي بالنعناع)، ولأنها طويلة بعض الشيء فسأحاول اختصارها.. كان صاحب القصة طفلاً في السابعة، يهوى الوقوف أمام واجهة محل مستر جونز للحلويات، ذلك العالم الساحر حيث قطع الحلوى والكعك والتفاح المكسو بالسكر وتماثيل الشيكولاتة الزاهية، كان الفتى فقيراً يكتفي بالفرجة، حتى جاء يوم جمع فيه ما يكفي وقرر دخول المحل، طلب في ثقة خمس قطع من الكعك وكيسين من حلوى غزل البنات الساخنة وعددا لا بأس به من تماثيل الشيكولاتة الفاخرة، سأله مستر جونز العجوز من خلف عويناته (هل لديك ما يكفي من النقود؟) فأجابه بثقة (نعم لدى ما يكفي). ناوله كيس الأحلام وأخبره بالثمن، وضع الصبي يده في جيبه وأخرج قبضة مليئة بالكرات الزجاجية الملونة (البراجون) وناولها للمستر جونز في ثقة وهو يقول (هل هي كافية؟). صمت البائع قليلاً وهو يتأمل الكرات الملونة ثم رد بصوت مبحوح ( بل هي زائدة ويتبقى لك بعض النقود) ومد يده وناول الصبي قطعاً من العملة المعدنية. انتقل الفتى السعيد إلى نيويورك، كبر وتزوج فتاة أحلامه ولأنه يحب أسماك الزينة فقد جمع ما تبقى له من مال وفتح محلاً لبيعها، في الأسبوع الأول والمحل لايزال خاوياً مثقلا بالديون دخلت طفلة في الثامنة تصطحب أخاها الصغير الذي لم يبلغ الخامسة من العمر وقالت في ثقة (أريد أن أشتري بعض الأسماك لأخي) رحب بها الرجل وقام بجمع ما أشارت له من أسماك، اختارت أسماكاً ملونة غالية الثمن وأخرى كبيرة زاهية الألوان، كانت تلك الأسماك تساوي ثروة، وعندما سألها البائع إن كانت تملك الثمن لم تبد اهتماما وهزت رأسها إيجاباً. ناولها الدلو الذي يحوي الأسماك وأخبرها بالثمن، مدت يديها في جيبها وأخرجت قبضة ممتلئة بكمية وافرة من حلوى النعناع ونثرتها على الطاولة وتساءلت في براءة (هل هذا كاف؟). وقف البائع مبهور الأنفاس وهو يحدق في الحلوى، تذكر فجأة موقف المستر جونز قبل 25 عاماً وهو يأخذ منه الكرات الزجاجية الملونة، لم يفكر كثيراً تنهد بعمق وقال (بل لك نقود زائدة) ودس في يدها قطعة نقدية، انصرفت الطفلة سعيدة، في حين انهار هو على المقعد وهو يردد (أي دين ثقيل حملتني هو يا سيد جونز)!