أشرتُ في مقال سابق بعنوان «هل نحن سلفيون حقاً؟!» (الوطن، 16/ 4/ 1431ه) إلى تعريف «السلفية» السائد في بلادنا بأنها «فهم القرآن والسنة على فهم الصحابة والتابعين»، ويقتضي هذا التعريف أن غير السلفيين «مبتدِعَة». لكن هذا ما تدعيه التيارات والمذاهب الإسلامية الأخرى كلها. ومؤداه اللازم إقصاء المسلمين الآخرين، إن لم يكن تكفيرهم. وأشرت إلى أن مفهوم «السلفية» ربما نشأ في الفترة المبكرة من تاريخ الإسلام التي شهدت جدلاً واسعاً، لأسباب سياسية في أول الأمر، يتصل ببعض القضايا العقدية الأساسية، كالقضاء والقدر، ومرتكب الكبيرة، وأسماء الله تعالى وصفاته، وغير ذلك. لكن هذا المفهوم صار، فيما بعد، عنواناً للتقليد، لا للصحابة والتابعين فحسب، بل لمن جاء بعدهم. ثم انتقل من مجال العقيدة إلى الفقه. ونتج عن ذلك توقُّف الاجتهاد الفاعل في المذاهب كلها تقريباً عند ما قاله مؤسسو تلك المذاهب وتلاميذهم المباشرون، ثم أصبحت الغايةُ الاقتصارَ على إيراد أقوال أولئك والاكتفاء بها أو «الاجتهاد» في الأطر المعرفية والعلمية التي وضعوها. كما لاحظت أن هناك سمتين واضحتين ل»السلفية» في مجالنا المحلي؛ فالأولى ما يمكن أن يصل إلى «تقديس» العلماء ورفعهم إلى مرتبة قريبة من مرتبة «المراجع» الغريبة على المذهب السني، واستنكار الحوار معهم ادعاء بأن القصد منه نزع مهابتهم والحط من منزلتهم بين الناس. والسمةُ الثانية «التقليدُ» ومناهضةُ الجديد بأنواعه كلها. ومن الشواهد الأخيرة على هذا التلازم الفتوى التالية لأحد «كبار العلماء» عن القنوات التلفزيونية، ومنها الدينية: «لا شك أن هذه أمور مستجدة وطارئة على المسلمين. والأمة على مر العصور إلى زمن قريب عاشت من دون هذه الآلات والوسائل مكتفية بما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم حصلت هذه الأمور وتعلق الناس بها وأُشرب في قلوبهم حبها، وصاروا لا يستغنون عنها في الغالب. أما من استطاع أن يعيش من دونها واستطاع السيطرة على من تحت يده من النساء وأن يختصروا على ما كانت عليه الأمة قبل ذلك فلا شك أن هذه العزيمة والسلامة لا يعدلها شيء». أما «السلفية»، كما أنظر إليها، فأفضل ما تتميز به -في مفهومها النقي- صفاءُ التوحيد الذي يُحرر المسلم من الخوف من الناس، وأن العلاقة بين الله والمسلم مباشِرة لا تمر بوسيط من ولي أو إمام أو شيخ أو مرشد. وهذا المفهوم النقي ل»السلفية» هو الملائم للمسلم المعاصر الذي يتشوق إلى الحرية والفردية التي تجعله مسؤولا عن نفسه. استعدتُ بعض أفكار ذلك المقال بمناسبة المؤتمر الذي عقدته جامعة الإمام محمد بن سعود قبل أسبوعين بعنوان «السلفية منهج شرعي ومطلب وطني». والملاحظة الأولى على هذا المؤتمر تتعلق بعنوانه. فمع إمكان فهم الشق الأول من العنوان، إلا أن من الغموض أن توصف «السلفية» بأنها «مطلب وطني». فهل يعني هذا أن مواطني المملكة العربية السعودية «جميعهم» يطالبون بها؟! أم المقصود أن بقاء الدولة السعودية مرهون بالالتزام بهذا المنهج؟ ويبدو أن المعنى الأخير هو المقصود، كما يتضح من عناوين بعض الأوراق التي قُدمت للمؤتمر. وهذا تجاهل واضح لمقومات المشروعية الأخرى للدولة السعودية التي لا تقل أهمية، وتُجمع عليها الغالبية العظمى من المواطنين السعوديين. ومصطلح «السلفية» جديد في السياق الديني في المملكة. فقد كان المصطلح الذي تُعرف به «دعوة» الشيخ محمد بن عبدالوهاب، إلى ما قبل أربعين سنة تقريباً، هو «الدعوة الإصلاحية»، وهو مصطلح وصفيٌّ يدل بدقة على المشروع الذي يسعى إلى الإصلاح الديني في الاعتقاد والعبادات والمعاملات. ويبدو أن مصطلح «السلفية» الحادث من مخترعات مد الصحوة الحزبي الذي نشأ بتأثير هجرة الإخوان المسلمين منذ أواخر الخمسينيات الميلادية إلى المملكة. وهم الذين نظَّموا التشدد الديني المحلي في ضوء المهارات التنظيمية التي يحذقونها. فهذا المصطلح، إضافة إلى بدعيَّته -بالمقاييس «السلفية» نفسها!- إنما هو تحويل ل»الدعوة الإصلاحية» عن منهجها الدعوي إلى حزب سياسي. واللافت أن «السلفيين»، الذين لا يتوانون عن وصف المستجدات المادية والفكرية كلها ب»البدع»، لم يعارضوا «حداثة» هذا المصطلح، ولم يصفوه ب»البدعة» ولم يحرموه، ويمنعوا على الناس استخدامه. وأخطر ما ينتج عن استخدام مصطلح «السلفية» في المجال الديني في المملكة أن يَؤول إلى تأسيس «مذهب جديد» يضاف إلى المذاهب الإسلامية التي تأسست كلها عن طريق الانشقاق عن جماعة المسلمين ادعاء بالتفرد في فهم القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، والتميُّز، من ثم، بمصطلح يفرزها عن غيرها. ويتضح جليًّا من الأوراق التي قدمت في «المؤتمر» كلها أنها لا تمثل إلا وجهة نظر واحدة متعاطفة. ويَجمع بينها كلها «الدعايةُ» لهذا «المذهب الجديد»، و»الدفاع» عنه، وتبرئته مما ارتُكب، ويُرتكب، باسمه من غلو وتكفير وعنف وإقصاء. ولا يُنكر أحد أن المملكة العربية السعودية مهبط الوحي ومثوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يُحلُّها مكانة متميزة في قلوب المسلمين. ولا يمكن لأحد أن يُنكر أن توحيد الأقاليم المتناثرة المتناحرة في الجزء الأكبر من الجزيرة العربية في كيان كبير واحد، إنجاز غير مسبوق في تاريخ الجزيرة العربية منذ قرون. ولا ينكر أحد أن جزءاً من مشروعية الدولة السعودية ينبثق من انتهاجها منهجا دينياً إصلاحياً متميزاً. لكن هذا كله لا يسوِّغ الدعوة إلى «الانشقاق» عن المسلمين، والانغلاق على الذات، والادعاء بتمثيل «الإسلام الصحيح». إن أحد الأسباب الرئيسة لنفور كثير من المسلمين منا هو هذا «الادعاء» الذي يُشعرهم بالدونية والإقصاء من خلال التوهين من اختياراتهم المذهبية التي نشأوا عليها. أما قَدَر المملكة، بدلاً من هذا الانكفاء، فهو أن تمد اليد للمسلمين جميعاً، من غير استثناء، لاحتواء الخلافات التاريخية والفقهية والعقدية التي مزقتهم طوال تاريخهم.