تعرَّف "السلفية" في مجالنا المحلِّي بأنها "فهم القرآن والسنة على فهم الصحابة والتابعين". وربما يعني هذا أن التيارات والمذاهب الإسلامية الأخرى تستبدل بهذا الفهم أفهامَها "المبتدعَة"، وهو ما يخرجها عن الفهم الصحيح للإسلام. لكن هذا التعريف ليس كافيا، لأن هذا ما تدعيه التيارات والمذاهب الأخرى كلها. ولفك هذا الإشكال تنبغي العودة إلى تاريخ لفظ "السلفية" نفسه لمعرفة السياق الذي نشأ فيه. لكن هذا ربما يكون مستحيلا لعدم وجود معجم تاريخي للغة العربية يُعنى بالتتبع التاريخي للمفردات يمكن أن يكشف عن زمن نشأتها وتطورات استخداماتها. وربما يعود منشأ مفهوم "السلفية" إلى الفترة المبكرة من تاريخ الإسلام التي شهدت جدلا واسعا، لأسباب سياسية في أول الأمر، تتصل ببعض القضايا العقدية الأساسية، كالقضاء والقدر، ومرتكب الكبيرة، وأسماء الله تعالى وصفاته، وغير ذلك. وأمام غزارة تلك الأفكار وتنوعها، التي زاد منها التأثيراتُ الفلسفية الأجنبية، اختار بعض علماء المسلمين القدماء التوقف عن الخوض في هذا النقاش، وأعلنوا أن التأويلات الحادثة لهذه القضايا تخرجها عن الفهم الأول الذي تمثله الأحاديث الشريفة التي رواها الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم عنها، وعن فهم الصحابة والتابعين التلقائي غير المعلِّل لها. وهذا ما جعلهم يتوقفون عن الخوض في هذه المسائل الغيبية، وأدانوا التيارات والمذاهب التي أخذت تؤوِّلها في ضوء المعارف الفلسفية الجديدة في تلك القرون المبكرة. ويعبِّر القولُ المشهور للإمام مالك، حين سئل عن مفهوم "استعلاء الله على عرشه": "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" عن هذا الموقف الذي يؤمن بالغيبيات على الفهم التلقائي لألفاظ اللغة، ويرى الخوض في تأويلها تكلُّفا. ويمكن للمتأمل أن يرى صواب هذا الموقف ،لأن الجدل في هذه القضايا لم يثمر إلا تمزيق المسلمين إلى فرق يكفر بعضها بعضا لأدنى خلاف فيها، ذلك أن كثيرا من ذلك الجدل لم يكن مؤسسا تأسيسا فلسفيا مطردا بقدر ما كان يقوم على استخدام جزئي لبعض الأفكار التي شاعت نتيجة للاضطرابات السياسية أو للترجمة الجزئية غير المبينة للفلسفة اليونانية نفسها. لكن هذا المفهوم ل"السلفية" صار، فيما بعد، عنوانا للتقليد. فقد انتقل من مجال العقيدة إلى مجال الفقه. فتوقف الاجتهاد الفاعل في المذاهب كلها تقريبا عند ما قاله مؤسسو تلك المذاهب وتلاميذهم المباشرون ثم أصبحت الغاية هي الاقتصار على إيراد أقوال أولئك والاكتفاء بها أو "الاجتهاد" في الأطر المعرفية والعلمية التي وضعوها. وهذا ما أدى إلى تعظيم آرائهم وجعلِها حكَما فيما يصح وما لا يصح من الآراء العقدية والفقهية على السواء، بل ربما اقتصر الأمر على الاستغناء بالاستشهاد بأقوالهم عن الاستشهاد بنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. وبلغ التقليد المتذرِّع ب"السلفية" مدى بعيدا في مجالنا المحلي. ويصوِّر هذا النصُّ التالي الوارد في واحد من أهم المراجع "السلفية" المحلية: ''ولا ينبغي لأحد من الناس العدول عن طريقة آل الشيخ، رحمة الله عليهم، ومخالفة ما استمروا عليه في أصول الدين؛ فإنه الصراط المستقيم، الذي مَن حاد عنه فقد سلك طريق أصحاب الجحيم. وكذلك في مسائل الأحكام والفتوى، لا ينبغي العدول عما استقاموا عليه، واستمرت عليه الفتوى منهم. فمن خالف في شيء من ذلك، واتخذ سبيلا يخالف ما كان معلوما عندهم، ومفتىً به عندهم، ومستقرة به الفتوى بينهم، فهو أهل للإنكار عليه والرد لقوله'' (نقلا عن الدكتور حمزة السالم، صحيفة الاقتصادية، 20/9/1430ه، مما نقله جامع الدرر السنية في الأجوبة النجدية ج 14، ص ص 375 376). ولو اكتفى هذا النص بإيجاب اتباع ما تراه هذه المؤسسة في القضايا العقدية التي اشتهرت بها "السلفية" المحلية كقضايا التوحيد لكان ذلك مفهوما. لكن "السلفية" المحلية توسَّعت لتشمل التقيد بالاجتهادات الفقهية التي صدرت عن الفقهاء القدماء. وزادت على ذلك تعظيم الممارسات التقليدية حتى إن كانت تدخل في باب العادات والتقاليد، وصارت تنفر من الجديد حتى إن لم يتعلق بالأمور العقدية أو الفقهية. وأدى بها ذلك إلى الاستخدام المفرط لقاعدة "سد الذرائع" التي تقوم في كثير من الأحيان على الخوف من الجديد لكونه جديدا، لا لأنه يمكن أن يؤدي إلى مخالفة فقهية أو عقدية. بل أدى التقليد وتعظيم السابقين ب"السلفية" المحلية إلى أن تتشابه مع المذاهب والتيارات الأخرى التي تنتقدها، فقد كادت أقوالهم تكون مقدسة، وصار من يقول بآراء مخالفة لهم عرضة لشتى أنواع الاتهام. وبذلت "السلفية" المحلية جهدا فائقا لمنع نقد من يوصفون ب"العلماء"، ويعبِّر عن ذلك الاستخدام المفرِط لعبارة "لحوم العلماء مسمومة" في السنوات القليلة الماضية. ويكاد بعض المنتمين إلى "السلفية" المحلية يرقون ببعض "العلماء" إلى مرتبة "المراجع" الغريبة على المذهب السني، ويرون أن الحوار معهم لا يقصد منه إلا نزع مهابتهم والحط من منزلتهم بين الناس. كما بَنت "السلفية" سدودا بينها وبين الناس باستخدام وسائل ربما تصل إلى العنف ضد ما تراه ممارسات مخالفة. ويمكن التمثيل على هذه الممارسات العنيفة بما تقوم به بعض العناصر "السلفية" في الصومال الآن من تهديم الأضرحة، وهو ما يثير غضب كثير من الناس هناك. ولو اتبع هؤلاء سبيل اللين لكان يمكن أن يتخلى الناس طواعية عما ألفوه من ممارسات تدخل في باب الجهل. إن أفضل ما تتميز به "السلفية" في مفهومها النقي صفاءُ التوحيد الذي يعني تحرير المسلم من الخوف من الناس، وتبيين أن العلاقة بين الله والمسلم مباشِرة لا تمر بوسيط من ولي أو إمام أو شيخ أو مرشد. وهذا المفهوم النقي ل"السلفية" هو الملائم للمسلم المعاصر الذي يتشوق إلى الحرية والفردية التي تجعله مسؤولا عن نفسه. لذلك كله فالأفضل أن يحرر مفهوم "السلفية" من التقليد الذي يقف حجر عثرة في سبيل التجديد والانطلاق والإبداع والاستفادة من منجزات الحضارة المعاصرة، ومن الشدة التي تسيء إليها وتصرف الناس عنها. إن احترام السلف لا يتحقق بالوقوف عند آرائهم واعتقاد أنها الوحيدة الصحيحة، لكنه يتحقق بالاقتداء بهم في المنهج. وهو ما تبينه أقوالهم المشهورة مثل: "كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر"، و"نحن رجال وهم رجال".