لو حاولتُ أن أُغني مع المُغنّين لك والمُتغنين بك لربما كان صوتي نشازاً بين بقيّة الأصوات الفاتنة المفتونة، ولربما ظن المُستمع أني أنتحب لخشونة في حنجرة متخمة بحروف النداء، أو توّهم أني موجوع أندبُ الحظ في حفلة رثاء، لستُ وحدي، كثيرون معي وحولي، بل جميع المواطنين يعشقون أوطانهم ويتمنون أن يروها في أجمل مظهر وأبهى صورة، وتظل الأحلامُ جزءا من الأوهام التي تحيا في ذاكرة الكُسالى وأمنيات النرجسيين ال(أرهقهم) انتظاراً الذي يأتي ولا يأتي على طريقة شاعرنا الشعبي «يا تمر م البصرة لو ما جيت ما ضقنا، عساك سد البحر وعساك ما تاجي، التمر تمرا على اسمه وأنت بصراوي» كلنا منتمٍ لوطن، يحيا ضمن رقعته الجغرافية ويستعيد سياقاته مغلوطة كانت أم صحيحة بحسب ما يتوفر من مرويات تاريخية، وكلنا نتعاطى وفق منظومة الحقوق والواجبات النظرية كونها ليست موثّقة في قانون مكتوب ولكنها التزام أدبي، وما أحببتُ التوقف عنده هو مفهومنا للوطن إذ إنه يتفاوت بحسب وعي وممارسة كل فرد صغيراً أم كبيراً مسؤولاً خطيراً أم مواطناً معدماً، إذ إن عشقنا يختلف باختلاف زاوية رؤيتنا لأوطاننا، بعضهم يظن الوطن مذهباً فقهياً، وبعضهم يراه منهجاً إسلامياً، وبعضهم يراه وفرةً مالية، وآخرون يرونه فيما يتحقق لهم من منافع ومكاسب في أيام معدودات، وخيّرون يرونه بكل أبعاده ومنجزاته، بكل حسناته فقط! لا تصح نسبة السيئات للوطن عند الأوفياء الذين يتمثّلون الوطن أرضاً وشعباً وقيادة، ويؤمنون به عدلا وحرية وأمنا، الوطنُ حين يُحبّنا ويحنو علينا لا تليق بنا نذالة تجاهه، ولا يُجمّلنا العقوق نحوه، الوطنُ إن سهر ليلة من أجلنا فيجبُ أن نفني أعمارنا سهراً له وبه ومعه وعليه ونشعره أننا عينه المجافية للنوم، الوطنُ إن تقرّب إلينا شبراً تقرّبنا إليه ذراعاً، وإن دنى منا ذراعاً دنونا منه باعا، وإن أتانا مشياً أتيناه هرولة، الكل يعشق الوطنَ ولن أُزايد على أحد بحيث نحصر الحب في فرد أو عائلة أو جماعة أو تيار أو حزب، إلا أن حب بعضهم أحمق كونه حباً ناقص الأضلاع، فبعضهم يرى في الولاء المطلق لشخصية اعتبارية أمير أو وزير أو مدير أكبر دليل على صدق حبّه وانتمائه، علماً بأن الفارق كبير بين الانتماء والولاء، فالانتماء للثابت يقوم على « كم قدّمت» والولاء للمتحول محوره «كم كسبت»، ليس من الصدق أن نُحب الوطن بقدر ما يتحقق لنا من مكاسب، ولا بقدر ما يُغدق القيّمون عليه من المال والهدايا وتذاكر السفر، ولا بحجم ما يُعتمد لشركاتنا من مشاريع ولمؤسساتنا من مخصصات الميزانية، هذا خلل في التصور ونفعية ومقايضة لا تليق بشعوبٍ تضيء أحجار الطرق لها احتراماً، نحبك وتخفق صدورنا بمشاعرنا خفق صدور الأمهات دون اعتبار بخذ وهات نحبك مُجرّداً « واو وطاء ونون، يكونُ إذ نكون».