للثورات وجهان، أحدها مشرق وواعد بمستقبل أفضل، والآخر محبط للآمال لما يكشف عنه من قصر في النظر. والثورة التونسية ليست استثناء في هذا السياق. فعندما تقلب نظرك في ما يجري من أحداث، تجد العديد من المكاسب التي تحققت في وقت قياسي. ففي أقل من سنة، نجح التونسيون في إيجاد صيغة ظرفية وتوافقية لبرلمان مصغر غير منتخب تحت عنوان ( الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي )، وذلك لسد الفراغ الذي ترتب عن حل البرلمان المغشوش. وهي الهيئة التي توصلت لإصدار قانون انتخابي، ثم أنشأت لجنة مستقلة لتنظيم الانتخابات بعيدا عن أي شكل من أشكال الإشراف الحكومي، وهي حالة تكاد تكون فريدة من نوعها في العالم. بعد ذلك حصل لأول مرة في تاريخ البلاد تنظيم انتخابات ديمقراطية وتنافسية ونزيهة، لم يطعن أي طرف داخلي أو خارجي في نتائجها. ومنها تم اختيار مثقف مشاكس هو د. المنصف المرزوقي ليكون رئيسا مؤقتا للبلاد. وبعده حصل توافق حول تشكيل حكومة ائتلافية بقيادة حركة النهضة دون أن يعترض أي على ذلك بمن فيهم الخاسرون في الانتخابات أو الحكومات الغربية ذات الارتباط العضوي بتونس مثل فرنسا والولايات المتحدةالأمريكية، وبذلك سقط سيناريو التخويف الذي كان نظام الرئيس بن علي يستعمله كفزاعة من أجل ضمان استمراريته في السلطة. هذا جزء من الوجه المشرق للثورة التونسية، التي أشادت بها أطراف إقليمية ودولية عديدة، وجعلت المصريين على سبيل المثال من شباب ميدان التحرير يطالبون نخبهم السياسية بالاقتداء بالنموذج التونسي. أما الوجه الآخر من هذه الثورة، فيتضح من خلال مثالين: – أولهما هذه الموجة من الاعتصامات التي اجتاحت من جديد البلاد التونسية من شمالها إلى جنوبها. هم عاطلون عن العمل يريدون شغلا، أو عمال وموظفون يطالبون بتحسين أجورهم وتحقيق مزيد من الامتيازات. بعض هؤلاء لا يكتفون بالتجمع أمام مباني المؤسسات، أو رفع الشعارات، وإنما أصبحوا يعمدون إلى شل حركة الانتاج تماما بالشركات والمصانع، ومنع زملائهم من العمل. أكثر من ذلك، هناك من احتجزوا عمالا في شركة أخرى من أجل الضغط على السلطات لتحسين أوضاع في مؤسسة أخرى. كما تعددت هذه الوسائل، لتصل حد قطع الطرق الرئيسية، وتخريب المؤسسات العمومية. وهو ما أصبح يهدد بجدية اقتصاد البلاد، مما دفع بأكثر من 120 مؤسسة أجنبية إلى غلق أبوابها ومغادرة التراب التونسي، مما زاد في تضخم عدد العاطلين عن العمل الذين تجاوزوا حدود السبعمائة ألف عاطل. هذه الظاهرة وصفها رئيس الدولة منصف المرزوقي بالانتحار الجماعي، واعتبرها طعنة في ظهر الثورة. وهي في الحقيقة ناتجة عن عدم وعي، وانسياق وراء مطلبية مجحفة ربطها البعض بما يسمى حاليا في تونس ب « الثورة المضادة «، في إشارة إلى قوى خفية قد تكون مرتبطة ببقايا النظام السابق تعمل على تخريب الانتقال الديمقراطي. وبما أن هذه الاعتصامات قد تصاعدت بشدة بعد تشكيل الحكومة الجديدة، فقد اتهمت أطراف التحالف الحاكم المعارضة بأنها تقف وراء هذه الظاهرة، أو تعمل على تغذيتها من أجل إفشال حكومة يقودها إسلاميون. وهو ما نفته المعارضة بشدة. – المثال الثاني يلتقي مع الأول في الشكل، لكنه يختلف في المضمون وفي الأهداف والدلالات. لقد وفرت أجواء الحرية التي أطلقتها الثورة فرصة للمجموعات السلفية التي كثفت من تحركاتها طيلة الأشهر الأخيرة، وأصبحت تشكل صداعا مزمنا لمختلف القوى السياسية بما فيها حركة النهضة. إحدى هذه المجموعات تمكنت من تعطيل الدروس لمدة شهر كامل بإحدى كبرى الجامعات التونسية، وذلك عن طريق تنظيم اعتصام متواصل، من أجل المطالبة بتمكين المنقبات من اجتياز الامتحانات، وتخصيص قاعة للصلاة، رغم وجود مسجد قريب من الجامعة. وإذ تفهم المجلس العلمي للأساتذة المطلب الثاني، إلا أنه حصل إجماع حول رفض المطلب الأول لأسباب تتعلق ببيداغوجية التواصل العلمي بين الأستاذ وطالباته. وهكذا، بدل التوجه نحو المشكلات الخطيرة التي توجه أوضاع التعليم والصحة والشغل بالبلد، أصبح الجدال الأول في تاريخ تونس حول شرعية النقاب من بطلانه. هكذا حال الثورات الشعبية. توفر فرصة نادرة للجميع، كي يعبروا دفعة واحدة عن أفكارهم ومطالبهم وهوياتهم الفرعية، وذلك دون مراعاة الظروف والإمكانات الفعلية للحكومات وللبلاد، ولا احترام الأولويات. لكن الديمقراطية قادرة في الأخير على تحقيق التوازن بين الحرية والقانون. إنه المخاض الصعب لعملية إعادة بناء الدولة بعد أن خربها الفساد والاستبداد.