إنّ مفهوم إثارة الجدل مفهوم واسع، يحمل في ثناياه التعبير عن حالة أفكار أو مواقف أو ممارسات أو إنتاج من أي نوع ثقافي، فني، اجتماعي، علمي أو غيره، بغض النظر عن سمو هذه الأشياء أو قلة شأنها، تتكون حولها آراء مختلفة اختلافاً حاداً في المجتمع المعين. ولكنّ هناك شرطاً حتى تتحقق الإثارة وينال الشخص لقب مثير الجدل بجدارة، وهي ضرورة وجوده في وسط إعلامي أو مشهد ثقافي أو استعانته بأي من وسائل الاتصال الجماهيرية والاجتماعية المبذولة للكافة. وتحتاج كذلك إلى استراتيجية معينة وهي أنّ الشخص المثير للجدل يقدّم فكرته أو موقفه كمحاولة لفتح أفق مختلف بينه وبين الآخرين، يعتمد لتحقيق ذلك على عنصر المباغتة، ففي غمرة الانشغال تنفجر المفاجأة حتى تتواصل علامات التعجب ببعضها بعضاً، مكونة سلسلة وثيقة العرى توصل الموقف أو الفكرة إلى القمة التي يتم تتويج المثير للجدل على رأسها نبيلاً ولو إلى حين. ويبدو أنّ البعض لا يطيق صبراً مع نزعة إثارة الجدل التي أصبحت الطريق المختصر إلى النجومية، حتى صرنا مع إشراقة كل صباح جديد نمتّع ناظرينا بظهور نجوم في عدة مجالات. ومن الواضح أنّ أسهل السبل للوصول إلى الغاية المرجوة هو كسر التابوه بتناول أحد المواضيع الثلاثة وهي: الدين، الجنس أو السياسة. وليس بالضرورة أن يكون الشخص عالماً ضليعاً في هذه المجالات، فيكفي أن يلقي ما تجود به قريحته النيّرة مع مصاحبة الفرقعات الإعلامية التي تنجح في أداء الدور كاملاً، وتحفظ هالة الإثارة لبعض الوقت حتى يخبو أوارها باتقاد أخرى في مكان آخر. إنّ فكرة إثارة الجدل هي فكرة صاعقة في حد ذاتها وتزداد قوتها بتناولها لأحد المواضيع الثلاثة المذكورة آنفاً. ففي مجال الفتاوى وعلى اتساع العالم الإسلامي يتم الزج بفتاوى هي خليط من التوجيهات الحصرية للمرأة فقط. والغريب في بعض الفتاوى أنها لا تناقش أمور المرأة الفقهية التي هي في حاجة ماسة إلى الاستزادة منها والوعي فيها بزيادة مستجدات العصر، ولا هي كذلك تحثها على التعلّم والاجتهاد ولكن تجيء بأمور موغلة في الغرابة لعدم منطقيتها، وكثير منها لم يتم ذكره في القرآن الكريم ولا السنّة النبوية المطهرة، وليس له كذلك أي تأصيل في الشريعة الإسلامية السمحاء. ترى كيف يكون حال الدعوة إلى دين الله تعالى لو كان هذا حالنا؟ كيف نقنع غيرنا بأن يدخلوا في دين الله أفواجاً ونحن فينا من يعارض المنطق السليم للإيمان؟ وليست الفتاوى الدينية وحدها هي حقل الإثارة الناجح، فبالإمكان طرق باب السياسة أيضاً ليس كحق أصيل في المشاركة السياسية وإنما بمواقف لا تقل غرابة عن مواقف بعض المفتين. وهذه المواقف السياسية التي تكثر بالضرورة في عالمنا العربي والشرق أوسطي، هي أنّ البعض يتخذ موقفاً نضالياً بمعارضة الحكومة ولكن في نفس الوقت يستفيد من خدماتها وعطاياها. فكثير من أصحاب المواقف النضالية يكتب الواحد منهم بيمناه شتماً في حكامه وشعب بلاده الخانع ويأخذ بيسراه ما تجود به عليه نفس الحكومة ليصمت قليلاً. وهكذا يعيش مثير الجدل في خضم صراع المصالح والحرب من أجل البقاء، ويتأرجح بين المواقف حتى لا تستطيع تبيّن موقفه وانتمائه ولونه السياسي. أما أخصب أرض يمكن أن تُزرع فيها نبتة إثارة الجدل فهي حقل الأدب والثقافة والصحافة والفن. ففي ثقافتنا العربية ينزوي الحديث عن ثلاثية الدين والجنس والسياسة في إطار الممنوع، لذا ينشط غير المرغوب فيه هذا سرّاً فتنتعش سوقه ويصبح هو خيار المتلقين المفضل حتى ولو تناولوه سرّاً. ويتهافت عدد كبير من القراء والمشاهدين على الإنتاج الخليع سواء أكان أدبياً أو فنياً بغض النظر عن الرسالة التي يحملها في مضمونه، هذا إن كانت هناك رسالة في الأساس. أما سبب ذلك فلأنّ الإنتاج أصبح إنتاج السوق، وما يطلبه القراء والمشاهدون هو الذي يعتلي منصة الشراء، وهو السائد رغماً عن أنف أجهزة الرقابة الأدبية والفنية. وغالباً ما يبني الكتّاب ثقتهم في القرّاء على إنتاجهم من هذا النوع المثير للجدل ليستمروا في الإنتاج على ذات الشاكلة، وكمثال لهذا ما ظلت تخطه الكاتبة أحلام مستغانمي وترفد به المكتبة العربية من روايات بدأتها مثيرة للجدل بروايتها «عابر سرير» ثم استمرت على نفس المنوال فيما أنتجته لاحقاً رغم ضعفه البائن لغة وأسلوباً وفكرة وهو ما تناوله النقاد وما لم يرضَه معجبوها. حتى أنّ جماهير القراء أصبحوا يقبلون على كتبها إرضاءً لفضولهم لما لاقته رواياتها من ضجة إعلامية واسعة. ومجموعة القراء من هذا النوع لا يهتمون بقوة الأسلوب ولا بقيمة الرسالة ورغماً عن ذلك يستمرون في اقتنائها، حتى بعد أن تنطفئ شعلتها الترويجية لأنه لا يبقى في النهاية إلا المؤثر والفعّال الذي يحمل بين سطوره أفكاراً وقيماً. إنّ مهمة إثارة الجدل مهارة في غاية السهولة والخطورة معاً، فهي تحتاج إلى شخص موهوب ليؤدي هذا الغرض وفي نفس الوقت لا تحتاج إلى مجهود أكثر من اللعب على المتناقضات. ولا يهم إن خضعت للتغيير بعد أداء غرضها أم لا، ولكن الأهم أن يحصل مثير الجدل على اللقب اللامع ثم يترك الضجة تأخذ مسيرتها الطبيعية في الصعود إلى أعلى عليين ثم السقوط به إلى أسفل سافلين، وكل من حاول في هذا المجال وصل إلى غايته ثم انحدر. وخطوات ذلك هي البدء في تفحص الآثار التي يترتب عليها موضوع الإثارة، وهل ستشكل رأياً عاماً ضدها أم معها، وهل تنبع الفكرة أو الموقف المثير للجدل من رؤية حقيقية مبرهنة أم هي مجرد مبالغات وشطحات؟ والأهم من ذلك أن تكون هناك انتقائية عالية جداً لاختيار مجال الإثارة. أن تثير الجدل يعني أن تنشر فكرتك الصارخة في الممنوع المرغوب بكل أريحية قد تستلزم الخروج على المبادئ والأخلاق وكل شيء. وإذا اتخذت أشكالاً أخرى من أصناف الإثارة كحقل الفن أو الأدب فلن تتحقق فيها الشروط الكاملة للإثارة ما لم يتم تتبيلها بهذه المقومات التي أصبح لا غنى عنها لكثير مما يمرّ بأيدينا من إنتاج فني وأدبي. وبعد، فلا بد أن تصدر الإثارة من خلفية ثقافية عالية تساعد استعراض المعرفة قدر الإمكان لتساعد على التبرير والإخراج الدقيق لكسر كل التابوهات المحكمة. خلاصة القول إنّ ما يصدر من إنسان سليم العقل والوجدان من إنتاج فني أو أدبي أو غيره لا يحتاج لأن يخرج إلى النور بفضل إثارته للجدل، ولكنه ينال حظه من رسوخ ذكره إذا ثبتت قوته ليجتاز بها امتحان التأثير والزمن. ثمة كتب وقطع فنية نادرة ظلت مؤثرة على مدى الزمان حتى بعد رحيل أصحابها؛ لأنها بدأت قوية من غير جلبة وصخب وأثبتت جدارتها.