رأيت نفسي، مرةً، بشحمها ولحمها، في مسرح موسيقي، ولأنَّ الصفوفَ الأماميَّةَ، إذا ما اقتعدتُ أحد كراسيها الوثيرة والمميزة في شكلها وحجمها وسعرها عن التي وراءها، (تعميني) وتشغلني عن المتابعة الدقيقة لما يجري في المسرح، فإنِّي أحبُّ الصفوف الخلفية، حيث أجلس دائماً مع البسطاء، لأتعرَّف على انطباعاتهم وأرصد مدى انسجامهم مع (السيمفونية) التي يُمنُّون أرواحَهم بها منذ مدَّة، والتي ربما على ضوئها، يتحدد موقفهم من (المستقبل) المنتظَر، فإمّا الأمل بغدٍ (هنيٍّ) مضيء، وإما مزيد من الإحباط المدمِّر!.. إضافةً إلى أنَّ (الخَلْفَ) يُتيح لي الرؤية والسماع و(التمييز) بصورة جلية لا يُمكِّن منها (الأمام)، فقد بدا واضحاً أنَّ (الفرقة) تعزفُ في وادٍ (سحيق) لا علاقة له ألبتَّةَ بنوتة (المايسترو الجديد)، وبما يصدره من (جُملٍ) لحنيَّة، فمثلاً كان جليّاً إصابة أوتار (العود) بالاهتراء بعد أنْ (جُرحت) كثيراً بسبب تواضع مستوى العازف وعدم توفُّر حس فنِّيٍّ (مهنيٍّ) شفاف، أما (الذي) على (القانون) فهو ممتلئٌ إلى درجة التشبُّع بتفاصيل (النوتة القديمة) ولا يمكن له أن (يندمج) مع المستجدات والمتغيرات إلا بعد زمنٍ طويل، فيما (النَّاي) تعاظمت (بحَّتُه) واخشوشنت بشكلٍ أفقدها الصدق والدفء، ليس لعلة في النَّاي، بل في (الأصابع) التي لا تحسن التنقل بين (فتحات) جسده النحيل، (والفم) الذي نثر فيه (الصدأ) بدل الإحساس العميق.. ويا لفداحة المصير الذي حلّ بِ (الكمنجات) حين انكسرت رقتُها واستسلمت لاغتصاب مرير على أيدي العازفين مما حوَّل اللحن الجديد (وزيَّفَه) لصالح (اجترار) اللحن القديم (السائد) الذي ظل يصدم الناس و(يقمع) أذواقهم سنين عديدة، ولم يسلم (البيانو) المسكينُ؛ فعانى بدوره من التخبُّطات وتشويه المقامات ليصل إلى إلغائها وفرض (مقام) صاحبه أو المكلَّف بالعزف عليه، على الرغم من أنَّه، أي المقام (المفروض)، لا ينتمي إلى الموسيقى والفن بأي حال من الأحوال، وفي حالة مزرية (وملخبطة) كهذه، سيكون طبيعيًّا أن يفشل (ضابط) الإيقاع في مهمته فلا يستطيع (توحيد) الفرقة على إيقاع النوتة الجديدة. وحدهم الذين في الصفوف الأمامية سيصفِّقونَ ويباركونَ هذا العزف الماهر والاستثنائي وسيعدُّونه بديعاً وعبقريّاً، لا لأنَّه كذلك في حقيقته، وإنَّما لتوافقه مع ما يشتهون. كانت الصفوف الخلفية تسمِّي أعضاء في الفرقة، بعينهم، وتتهمهم بأنهم هم الذين (يشقلبون) الألحان ويرجعونها إلى نسقٍ (شاذ) تعودوا هم عليه، يفعلون ذلك (بمكرٍ) يستغلُّ (انشغال) المايسترو بنوتته وتنظيمها وتساعدهم صفوف (المقدمة) حين تواصل الإعلان، (بصخب) حاد، عن إعجابها بما تعزفه الفرقة كي (تغطِّي) على انزعاج الصفوف (اللِّي ورا). ولم يكن المايسترو ليسمع شيئاً من تذمر هذه الصفوف (البعيدة)، بسبب الصخب المفتعَل من أولئك، وكنتُ أنوي النهوض من مقعدي وأركض إلى خشبة المسرح صاعداً سلالمها، بل إنَّنِي شرعت في ذلك كي ألحقَ بالمايسترو وأنقل له أنيناً حارقاً تسيل به قلوب الناس الذين (في الآخر)، آخر المسرح، وأسمِّي له الأشياء بأسمائها فأقول له: إنَّ الفرقة لا تؤدي أدوارَها وفق (نوتتك)؛ فالنوتة السابقة (تعشّش) وتقيمُ في عقول وقلوب (أفرادها) إقامة (عسيب) في ذلك البيت الشعري الشهير!.. لا يغرنَّك تصفيق وابتهاج صف أو صفَّين من الصفوف التي في الأمام؛ لأنَّ من (مصلحة) أذواق هؤلاء أن يستمرَّ (جوهر) اللحن القديم طاغياً على الزمان والمكان، وإن تغيَّرت النوتة وإن تغيَّر المايسترو أيضاً.