يعن الله الغامدي الإسلام في عمومه لا يمنع المرح، بل فيه كثير من الفسح طالما كانت في حدود الفرح المشروع وفي حكم المتعة الحلال، وصاحب المبدأ لا يتغير بتغير المواقع حينما يكون ملتزماً بوحي السماء ونبراس النبوة، وما أظن السفر إلا واحداً من تلك الفسح، الذي هو في حد ذاته مشقة وفي الوقت نفسه متعة. والسفر بأنواعه إن لم يكن تغيراً للمألوف وخروجاً عن الروتين فهو على الأقل ثقافة ومعرفة، ولا يمكن تكسبها إلا عن طريق تجربة أخلاق وعادات تلك الأمم، ومشاهدة تقاليد وحضارات تلك الشعوب. وعندما نتحدث عن موضوع السفر يتبادر إلى أذهاننا جميعاً أبيات الشافعي التي يقول فيها: تغرب عن الأوطان في طلب العلا وسافر ففي الأسفار خمس فوائد ورحم الله الشافعي الذي عد فوائد السفر قبل أكثر من عشرة قرون في خمس فوائد فقط، ولو عاش في زماننا هذا وشاهد وسائل الاتصال الحديثة لزاد عده على العشر والعشرين، وربما فاق عده المائة والمائتين. وإذا كنا جميعاً في هذه الدنيا على جناح سفر كما جاء في الأثر، وقد قال حكيم: السفر يسفر عن أخلاق الرجال، وهو الوجه الآخر للسياحة، مباح إذا قُصد به أمر مباح، ومحرم إذا قُصد به أمر محرم، والسفر الذي ننشده هو ما كان للتأمل والتدبر والاستجمام والتنزه والاستمتاع بالمناظر الجميلة والاطلاع على متاحف وآثار وجمال وعظمة هذا الكون الفسيح الذي صنعه من لا معبود بحق سواه. والسفر اليوم يختلف عن سفر الأمس، فما كان يحدث في الأمس في شهور وبجهد كبير أصبح اليوم يحدث في أيام معدودة وبجهود محدودة، ومن هنا فيارعى الله السفر، إذ لو لم يكن من محاسنه إلا أنه كشف لنا احترام العمل عند أولئك البشر واحترام الوقت في تلك الديار، فكيف وقد كشف لنا السفر عورات كثيرة في مجتمعنا، ولذا فلا تذموه حتى ولو أصبحت مدننا شبه خالية وشوارعنا شبه فارغة، لا لأن ما تنفقه هنا في أسبوع تنفقه هناك في شهر، ولكنك تشاهد وسائل نقل متوفرة لا تحتاج إليها واسطات ولا تستعطف لأجلها موظفين، فأنت تأخذ حقك ولو كنت أبكم كما يقولون، ولقد كشف لنا السفر أن التجار هناك أوفياء مع أوطانهم، فلا يستغلون الوطن ولا يخدعون المواطن، لأن النظام صارم، وأما قيادة السيارة فأحسب أنها عندهم فقط فن وذوق وأخلاق في شوارع نظيفة ومواقف متوفرة، تأتي الأمطار الغزيرة وربما المستمرة فلا تشعر بخوف ولا تسمع بكارثة. ويارعى الله المطر، ومن أي كوكب أولئك البشر! لا ترى غرق مدن، ولا تشاهد مياهاً راكدة، ولا تقرأ عن انهيارات أرضية، ولا توقف حركة مرورية، جسورهم وعبّاراتهم صامدة، الدراسة عندهم لا تُعلق، والمدارس لا تُغلق، بعكس ما تشاهد عندنا كلما نزلت غشقة مطر. ثم يا رعى الله السفر الذي كشف لنا العلاج والدواء الذي لا يقارن بيننا، وكيف أن أصغر المستشفيات عندهم خمس نجوم، إن السفر لأي غرض كشف لنا أسراراً علمها من علمها وجهلها من جهلها في التعليم والخدمات والتجارة والمشاريع، ولقد أظهر السفر أن لنا رحماً وصلة في كثير من تلك البلدان والأقطار عندما يغادر أكثر من ثلاثة ملايين شخص بلادنا بلاد الخير إلى بلاد الغير، ينفقون أكثر من ثلاثين مليار ريال سعودي كل عام كما تشير بعض الإحصاءات، ويقيناً لا يعرف تلك الأسرار إلا من كان له باع في تلك الأسفار. إن فوائد السفر لهي خليط من العجائب والغرائب عند معرفة تلك الأمم منذ القدم، وإلا فمن أراد الكتابة عنها أو عدها وحصرها فسيجد اختلافاً كبيراً، ولكن لا رعى الله السفر، بل قاتل الله السفر إذا لم يكن عندك علم يدفع عنك الشبهات، ودين يمنع عنك الشهوات، وحينئذ فمن أراد المتعة والفائدة فما عليه إلا أن يفتح محفظته ويغلق فمه كما يقول المثل الدنماركي.