يحتفل العشاق بعيد الحب، وينشغل المغردون بجوازه وحرمته، بينما في مزهرة بجازان، يرقص الموت في شرايين فتاة لا تعرف عن الحب سوى حضن أمها وصدر أبيها وأسرتها الصغيرة المنكوبة.. الإيدز، ذلك الوحش المخيف، سمعنا كثيرا عن هذا الوحش الكاسر، سمعنا عنه صغارا، لا يأتي ذكره إلا في سياقات التخويف والمصائر المرعبة والنهايات المأسوية، حين كنا صغارا لم نكن نعرف ما هو الإيدز، ولا كيف يصيب الإنسان؟ لم نكن نعي طبيعة تأثيره في جسد الإنسان، وكيفية تدميره الصحة وصولا إلى الموت. كل ما كنا نعرفه أنه موت دون الموت، يموت المصاب به آلاف المرات قبل أن تفارق روحه جسده. حين كبرنا قليلا، قرأنا وسمعنا وعرفنا كيف يصاب الإنسان بالإيدز، وكيف تكون الإصابة بالإيدز مرضا مميتا، وفضيحة مدوية هي أكثر قتلا وفتكا بمن يحمل فيروسه في عروقه وشرايينه! ولذلك يموت مريض الإيدز من كل الجهات، وفي كل الأحوال والمواصفات والظروف، يموت صامتا، حين يعيش بقية حياته متكتما على إصابته، خوف انتشار الخبر الفاضح، إلى درجة قد تؤدي إلى الانتحار، وفي ظني أن كثيرا من حالات الانتحار في مجتمعنا، تلك الحالات غير المبررة بمرض نفسي أو سبب واضح، وبخاصة بين الشباب والفتيات، هي بسبب الإصابة بالإيدز، فمريض الإيدز لا يملك – غالبا – حلا يتخذه أو وسيلة يسلكها أو طريقة للتعايش مع إصابته، وهذا مفهوم ومبرر جدا، فإلى من يتجه بسره؟ من يصطفي من بين أصدقائه وأهله ليعترف له ويخبره بمرضه الفضيحة؟ الأمر يحتاج إلى شجاعة نادرة لا يمتلكها كثيرمن الناس، لذا يعيش المصاب فترة من الزمن يصارع نفسه ومرضه وفضيحته، يعيش رعبا لا يوصف، بين خوفه من الموت الذي أصبح مسألة وقت فقط، وبين خوفه من المجتمع والأهل وكلام الناس… ليتخذ قراره الصعب المحرم بالانتحار، مختارا الموت بسره مكتوما مصونا، وبرغم صعوبة هذا الخيار/ القرار، إلا أنه يظل في نظر البعض الخيار الأسهل، بين الخيارات المحدودة أمامه. كبرنا أكثر، وعرفنا أكثر عن هذا الغول القاتل، عرفنا أنه قد يغتال البشر لأسباب أخرى غير تلك الأسباب الفضائحية، بل ربما حصلت الإصابة لسبب نبيل، مثل أن تقصد أحد بنوك الدم في مستشفياتنا الحديثة لتتبرع بكمية من دمك الحي لتنقذ به مريضا محتاجا لجرعات من الدم ليحيا ويستمر في الحياة، فيغرس موظف مستهتر أو فني عديم الضمير أمِن المتابعة فضلا عن العقوبة، في شريانك إبرة فاسدة أو أنبوبا ملوثا بفيروس الإيدز، لتصبح حينها ميتا في عداد الأحياء، في حين جئت لتنعش أملا مريضا في الحياة لإنسان آخر! وربما أصيب بالإيدز، أو غيره من الأوبئة، طفل أو طفلة بريئة أدخلت للتنويم جراء الأنيميا المنجلية محتاجة إلى كمية من الدم لإسعافها، وأراد فني المختبر الذي هو جارها في القرية خدمتها والتعجيل بإسعافها فالتقط كيس دم وانطلق مسرعا بالموت إلى رهام الحكمي، ابنة قريته، أخت مرضى الأنيميا، بنت حارس مدرسة القرية… هل تعلمون ما معنى أن تكون حارس مدرسة البنات في قرية جنوبية؟ لا أظن كثيرا يعلمون أن هذا الحارس هو بمكانة أب لكل بنات القرية، على تعاقب أجيالهن، يهتم بهن ويشفق عليهن ويتأكد دائما بأن ولي الأمر أو السائق الرسمي قد جاء يأخذ الفتيات، يعرف الجميع، رجالا ونساء، هو أب حقيقي، بحنانه ورعايته وحرصه، هكذا هو والد رهام، رهام ابنة الوطن كل الوطن، لكنها ليست ابنة وزير الصحة، رهام ابنة كل فرد في الوطن، لكنها ليست ابنة مدير عام المختبرات وبنوك الدم في وزارة الصحة السعودية، رهام ابنة كل المناطق والمدن والقرى في بلادنا، لكنها ليست ابنة أحد من المسؤولين ولا التجار الكبار الذين تغلق المستشفيات بالشمع الأحمر لأجلهم وأبنائهم، رهام ابنة كل جازان، لكنها ليست ابنة مدير عام الشؤون الصحية بجازان!! هي ابنة كل الوطن من باب التعاطف والشفقة والحب والدعاء، وهي ابنة كل الوطن من باب الخوف والرعب والهلع والألم والمصائب والكوارث التي ترتكبها وزارة الصحة في أبناء الوطن وبناته يوميا وفي كل المناطق، عرفنا ما عرفنا عن طريق الصحف، وما خفي كان أعظم. ليست رهام أولى الضحايا، هناك ضحايا توارى قضاياهم، تُطوى ولا تُروى، ولن تكون رهام آخرها، أعلنت وزارة الصحة جملة من القرارات التي تثير السخرية وتفضحنا أكثر أمام العالم، حتى لائحة الوزارة كارثية، إذ إن أقصى غرامة فيها لا تتجاوز عشرة آلاف ريال!! وكل ما فرض على المتورطين من غرامات في قضية رهام لا يصل عُشر قيمة واحدة من مزايين الإبل! المتبرع بالدم مصاب بالإيدز! هل يعلم هو عن إصابته ويمارس دورا إجراميا يستحق معه الإعدام؟ أم أنه لا يعلم؟ لماذا يسمح له بالتبرع مرتين وثلاثا؟ السبب باختصار أنه لا توجد قاعدة بيانات بالمتبرعين تحدث بشكل دوري، وتعمم على كل المختبرات وبنوك الدم السعودية، وتكشف بسهولة ويسر عن اسم المتبرع وصلاحيته للتبرع من عدمه، وتصدر عنه قائمة بالممنوعين من التبرع حتى لا يضروا أناسا آخرين في مناطق أخرى. لكن هيهات، يكون هذا الكلام مقبولا في غير هذه الوزارة وغير هؤلاء المسؤولين … الآن نجد كل قنوات الإعلام مشتعلة على قضية رهام، لكن هل تراهنون؟ بأنها مسألة أيام وتذوب القضية، وينسى الناس ويضيع حق رهام وأسرتها، وربما تدخل فاعل خير وأغدق عليهم من ماله، ويصمت الإعلام وينشغل المغردون بهاشتاق جديد، بكارثة أخرى للصحة أو البلديات أو المواصلات أو أو أو … فكثيرة هي الجهات التي تقتل !!