الباحة – علي الرباعي أمي عزّة كوني الأول.. وشقيقتي ماتت وعمري ثلاثة أعوام حظي مع النشر مثل حظ أبي زيد في الحمير حين يوقظه الفجر يسقيه حصته من غناء الصباح، وتغسل الشموس أجفانه بأبجدية النهار، أسمعُ حين يتحدث رنين الزمن الذهبي، تلّة من عرعر، وواد من ضوء، وامتداد فضاء وسمته هدايا الرعاة، أستشعر حين أمشي بجواره أنه مليء بأصوات مَنْ عشقهم وعشقوه، ومن شدّة غيرته عليهم لم يدونهم حتى إن نقش الدهر أحزانه في جبينه بمخالب خشنة، محمد ربيع الغامدي مسرحي قولاً وفعلاً، كيف لا وهو عرّاب المسرح في الباحة منذ تبنى مسرحيات شكسبير في المدارس منذ أربعين عاماً، عدنا للبئر الأولى، فوجدنا المكان متخم الذاكرة والطريق سلاسل بوح، وهنا بعض ما نجحنا في استخراجه من غور معين: * ماذا تكتنز الذاكرة من حديث الجدات عن مجيئك إلى الحياة؟ داهمتُ قريتي ضحى يوم أحد ورجالها وبعض نسائها مشغولون بارتياد سوق رغدان، وشعبان مكتمل بدره في ليلة كان الضحى ضحاها، كنت الذكر الوحيد لأبوين فقيرين بعد جولات عديدة مؤنثة، وتطوع من أوصل الخبر إلى أبي الذي كان حمالاً في مكةالمكرمة، وعندما جاءه الخبر جمع حبله وألقاه على عتبات المستودع، ثم جاء وعندما قاربت إتمام الشهر الثالث جاء الملك سعود – رحمه الله – إلى ديرتنا، فذهبت أمي ونساء القرية إلى رهوة البر لمشاهدة موكبه والحصول على شيء من أعطياته، وفضّلت البقاء بعيداً مهابة للمشهد، وبينما هي تحت شجرة عرعر جاءها ريال فضي غَرِب، تجاوز كل الأيدي ووقع في حجري، فلملمتني وعادت قانعة بذلك الريال، وشهدت أمي لي بطفولتي الهادئة إلا أني أحرجهم بانتعال أحذية الضيوف، وبالخوف من كبار السن ومن صوت المذياع، ومن المفارقة أنني أمضيت بقية حياتي حافياً، واتخذت من كبار السن أصدقاءً، وتعلقت بالمذياع حد الولع. * أي أنثى احتوتك من المهد؟ عزّة بنت جمعان هي الكون الأول الذي استضافني وديعة وأتاح لي نبض الحياة الجنينية، ثم أختي علياء التي ماتت وأنا في الثالثة من عمري تاركة اخضرار ثوبها في ذاكرتي، ثم قريتي زبيدة التي علّمتني لغة الطير، ومقاهي طريق الطائف التي علّمتني لغة الريح، ثم مدينة الطائف نفسها، حيث أخذت عنها أبجدية التنفس، ثم القصة القصيرة التي حررتني من الخوف. * أي مدينة عشقت؟ ما ظفرت بمدينة أتقوقع فيها، ما أن يألفني مكان حتى تحملني أقداري إلى غيره، فكانت لي المسافات، من السافي الذي يدفنك حيّاً حتى الضباب الذي يفقدك الذاكرة، من «شمنصير» شمال جدة حتى «أثرب» جنوبالباحة بكل سحناتها وحكاياتها وآمالها وآلامها. * ما أول كتاب قرأته؟ كتاب الكبائر للإمام الذهبي، قرأته في الصف الثاني بالتناوب مع أبي، ثم قرأته على الناس واعظاً في عقر دارهم، أفرض مواعظي عليهم فرضاً، وتتسع صدورهم لعجري وبجري، وكان ذلك الكتاب فاتحة مواسم أتناوب فيها القراءة وأبي، فقرأنا سفينة النجاة وزبدة البخاري ثم الصحيحين ثم الجلالين، ثم عرجنا على السير الشعبية لم نترك منها شيئاً، العنتريات والتغريبة والزير والبهلوان ورأس الغول والأميرة ذات الهمة والظاهر والملك سيف. * بمَنْ تعلقت من كُتّاب سني القراءة الأولى؟ الكاتب الذي تعلقت به هو المرحوم حامد مطاوع رئيس تحرير «الندوة» سابقاً، كان الوطن العربي يومها كحقل مستعر تحت وطأة مد راديكالي وحرب باردة على أهلها ساخنة علينا، وبلادنا حديثة عهد بالأمن والسلام نتمنى بقاء المظلة الآمنة فوق رؤوسنا، فقد شبعنا غزواً ومجاعات دون أن يكترث بنا أحد من شرق أو غرب، فكانت مقالات مطاوع تلامس هذه الأمنيات في دواخلنا، بدأت علاقتي معها كقارئ بالنيابة عن أبي، ثم ألفت الكاتب حتى بت أفهم لغته جيداً، وللحق فتلك الفترة كانت فترة مطاوع والحجيلان بلا منافس، وفي الضفة المقابلة هيكل وأحمد سعيد بلا منافس أيضاً. * هل تذكر أول نص نُشر لك؟ حظي في النشر مثل «حظ أبو زيد في الحمير» على رأي المثل، ولا أعرف السبب لكنه مسؤوليتي بالتأكيد، ربما هي الانطوائية أو الكسل أو المكابرة، بالمقابل حظيت بمنافذ أخرى كالمحاضرة والدراما الإذاعية والمسرحية والتدوين الشخصي، وإن كنت قد نشرت بعض كتب كان أولها: مفردات الموروث الشعبي في عام 1409ه. * مَنْ هو صديقك الأول؟ تتوزع صداقاتي في دوائر رأسية وأفقية، دائرة الطفولة، ودائرة الدراسة، ودائرة العمل وهناك دائرة العقيق ودائرة الطائف وهكذا، وفي كل دائرة صديق أول، ومع ذلك فهناك من تمرد على دوائري تلك فبرز في أكثرها، وفي مقدمة هؤلاء الأستاذ الدكتور سعد حمدان، ويوازيه الدكتور المهندس حامد الحامد، وقد امتزجت بهما طفولتي ومراهقتي وشبابي، وتقاطعت معهما دوائري وأقواسي. * أين وجدت نفسك من عواصم العالم؟ حيث أجد الإنسان مكباً على نفسه، ليس انطوائياً وما به من علة لكنه يريك نفسك في عوالمه التي تكتنف لحظته تلك، الحرفي الذي يمارس حرفته وبينما أنت تراه هو لا يراك، الصوفي الغارق في سبحاته، المتسول الذي يزاول تسولاً سامياً، سائق التاكسي الذي يكذب عليك ويدري أنك تدري أنه يكذب عليك، المسن الذي ينام على مقعده في نادي المسنين محدقاً في فضاء أمامه يراه ولا تراه، الناس الذين تتزاحم أكتافهم فتتجادل روائحهم، الناس الذين ترتفع أصواتهم ولا ينزعج منهم أحد، ومشاهد على هذه الشاكلة تغريك دائماً بالارتماء في أحضانها تاركاً بقية العاصمة لمرافقيك. * بماذا تحتفظ الذاكرة من الأحداث؟ طالما قلت في ذاكرتي، فسوف أبدأ معك بأحداث سعيدة، أول انصراف من المدرسة بعد أول يوم لي فيها استقبلني أبواي استقبالاً يليق بشيخ شمل، أعدا لي الحشايا الأثيرة، وجلست أمي تسكب لي القهوة، فكان يوماً جعلاه فاصلاً في حياتي، وما غاب عن ذاكرتي يوماً، حدث آخر كان يوم أن دخل الراديو بيتنا خلال صيف عام 1963 م فكان دخوله أيضاً حدثاً لا ينسى، في الجانب الآخر حيث الموت سيد الفواجع ماتت أختي التي كانت معنية بطفولتي الأولى، ومات أبي في عز شراكة الألق، وماتت أمي بعد أن وسمت مرحلة التقاعد بميسم أمومة تتفجر من جديد، هذه أحداث لا يمكن لها أن تغادر الذاكرة، والحروب أيضاً وهي أم الفواجع، كان أثرها غير بعيد مني، قنابل النابالم المصرية تشوي أطفال اليمن، وطائرات الصهاينة تدك طلاب بحر البقر وأطفال قانا وغزة، الحروب التي يشعلها السياسيون في الشرق والغرب لتنهي حياة إنسان كان يعيش وتنهي أحلام آخرين. * متى ذرفتَ أول دمعة؟ أتذكرها، كانت ليلة عودتنا الأولى لبيتنا القديم، ليلة عيد الأضحى من عام 1379ه، ما أن فتحنا الباب حتى عثرت أمي على قنينة مُلئت بالكيروسين، احتضنتها أمي ثم دخلت في نوبة بكاء ونشيج، هذه القنينة كانت أختي علياء قد تركتها قبل ثلاث سنوات تحسباً للعودة في ليلة مظلمة، وها نحن نعود في ليلة مظلمة بدون علياء التي تركناها في مقبرة ابن عباس في الطائف، هل نحن محقون عندما نخجل من البكاء؟ القبيلة حظرت البكاء ومنعت الضحك، فالدموع لا تليق بالفاتحين، والضحك لا يليق بالصالحين، وعلينا ارتداء وجوه نسجت من ألياف الصخر. * ما سر علاقة الصداقة الفريدة مع أبيك؟ السر يعود إلى أبي رحمه الله إذ كان شخصية فذة، لا يشبهه أحد من مجايليه، علَّم نفسه بنفسه حتى حفظ القرآن الكريم، وقرأ كتب الفقه الشافعي، وكان مُطّلعاً على أحوال العالم متفهماً للعصر ومتطلباته، لم تكن له أية تحفظات على تحرير الرق أو تعليم البنات أو شيوع الإذاعة والتليفزيون في المجتمع السعودي كما هو الحال عند كثير من أبناء جيله، ولو رأيته يشرح لرفاقه رحلة أبوللو وهبوط الإنسان على سطح القمر لمُلئت عجباً، وكان إذا شاركني الجلوس إلى أقراني وزملائي يأسرهم بلطفه وبكلامه فينصرف إليه اهتمامهم، يدخلون دارنا وهم أصدقائي ويخرجون وهم أصدقاؤه، ولا تزال ذكراه في قريتنا قائمة حتى الآن، كان زينة مجلس القرية وبهجتها، وجمع بين الصراحة والتأدب مع الآخرين، لم يثقل على أحد، حتى علينا نحن الذين لا نتردد في خدمته، يعرف حدوده وحقوقه وواجباته، لذلك كانت علاقتنا على النحو الذي أشرت إليه، وعلى نحو عجزت عن بلوغه مع أبنائي للأسف. * هل بقيت من خليل الخلايلي رائحة ما؟ بقيت ذكراه الطيبة – رحمه الله – فهو زميل عمل، ومشتغل بالثقافة رفيع الطراز، كان مشرفاً لمادة اللغة العربية، وكنت مشرفاً للتربية المسرحية في تعليم الباحة، وكلانا مشتغل باللغة فهو شاعر مجيد مبدع وموجود بشعره في كل مناسبات الباحة، وأنا أكتب القصة والمسرحية وقليل من الشعر، وهو يشاركني بعض أصدقائي مثل أحمد المساعد مدير مكتب جريدة «المدينة» حينها، والمرحوم اللواء علي بن صالح الذي كان من المشتغلين باللغة محكية وفصيحة، ثم اكتشفت أن الخلايلي أزدي من الأزد ومهتم بهم، وكنت حينها أشتغل على تدوين تاريخ الأزد، وعندما صدرت مجلة «الباحة» عن غرفتها التجارية كنا نكتب فيها معاً، ثم أن للخلايلي صداقات واسعة داخل الباحة مع الإخوة العرب من ساكني الباحة، وقد أشركني في استمتاعه بنقائهم وبياضهم وعميق تجاربهم، فكيف أنسى صديقاً بهذا البياض؟ * مَنْ أول مسؤول التقيته؟ الأمير فيصل بن بندر أمير منطقة القصيم، وكنت عضواً في لجنة تقييم الأنشطة الطلابية لمدارس القصيم منتدباً من وزارة التربية في عام 1416 ه، ولا تزال صورته المضيئة مشرقة في نفسي حتى اليوم. * إلى أي جهة يأخذك الحنين؟ يأخذني الحنين إلى كل الاتجاهات، أمكنة وأزمنة ووجوهاً وأشياءً، الحنين «ده لعبتي» ولي فيه حياة، أنا كائن مسافات يفتك بي الشوق والحنين معاً، وتر مشدود على قوس، طرفه الأول شوق وطرفه الثاني حنين وروحي سهم في هواء، كنت إذا غادرت إلى الطائف تتوقف بنا السيارة في شقصان (محطة في طريق الطائف) فتشتعل في قلبي جذوتان، الشوق للطائف والحنين لقريتي، سذابها وعثربها ومساريبها ووجوهها وصوت المحّالة يخالط صوت فقيه القرية يغني طرق الجبل، وكنت إذا عدت لقريتي نتوقف في قهوة نوار استعداداً لمواصلة المسير فجرا فتشتعل في قلبي جذوتان، الشوق للقرية والحنين للطائف وشوارعها وحوانيتها وأهازيج الباعة يطوفون شوارعها وأزقتها.