رائد البغلي أحياناً يقودني العَبَثُ في جوَّالي للولوج إلى سجلِّ الأسماء، فأتجوَّل بينها وكأنني في حديقةٍ غَنَّاء مكتظَّة بالزهور، فأقفُ عند اسم هذا وأشتَمُّ عبير خُلُقِه الزكيِّ فأبتسم، وأقفُ عند اسم ذاك فيفوح عبَق خفَّة ظلِّه ومقالبه الكوميديَّة، وأضحكُ حدَّ القهقهة، وأمرقُ عند اسم شخصٍ فأنظر للسماء كي أرسم جمال روحه بين غيومها، وأمرقُ عند اسم آخر فيَعمُّ شذى مبادراته ومواقفه الأرجاء، وفي هذه الأثناء، تزهو الابتسامة، ويتطاير رَذاذ الحُبُور، إلى أن يصدح الألمُ بصوته، و يفرضُ قَسراً كلمته، فيُبَدِّد ما سواه، فعندما تقع عيناي على اسم شخصٍ قد فارق الحياة، أقف متسمِّراً إزاءَ اسمه، وأحتار في «كيفية» طَرق أبواب التعبير، و»آلية» إطلاق هَباء الأحاسيس. هل أتذكَّرُه في حياته أم أتذكَّرُه بعد مماته؟!.. هل أتذكَّرُه بابتسامة أم بندامة؟!.. ووَقْعُ الألم يكون أكبر، والنزف أغزَر عندما أتصفَّح رسائله النَصيَّة المُختبِئَة في أروقة جوَّالي، فحتماً ستعمل هذه الرسائل عمل المِبْضَع مع الجراح، فكيف لي أن أكون وأنا أقرأ رسالةً وصلتني منه في أحد الأعياد وهو يقول لي فيها: «كل عامٍ وأنتَ بخير يا صديقي»، و يجتاحُني شعورٌ موجعٌ لا ترياق له بأنني لست قادراً على أن أردَّ له ذات العبارة في أي عيدٍ قادم، فأتأمَّل الاسم باستفاضة، وتأخذني الذكريات بعيداً، بعيداً جداً، فأصلُ لنقطة اللقاء الأول، مروراً بمحطات العلاقة كلها، وما تخلَّلَها من مواقف ولحظات جميلة وممتعة، أو مُرَّة ومرعبة، كلها اتَّسَمَت بالخلود، وأصل بذاكرتي لآخر لقاء أو آخر اتصال، وأرسم الملامح أو أُعيد الاستماع لنبرة الصوت، وكأنني أهيئ نفسي مُجدَّداً لما سأصل إليه، أو ما سيصلني- إن صحَّ التعبير- إلى أن أصلَ بمخيِّلتِي للحظة تلقِّي نبأ رحيل صاحب هذا الاسم من عالمنا، فأشعر أنني وقعتُ في بئرٍ عميقة لا قرار لها. وبعد الاستيعاب مُجدَّداً، أسأل نفسي بحِيرة: بما أنَّ صاحب هذا الرقم قد رحل، فما فائدة إبقائي على رقمه في جوالي، و لِمَ لَمْ أجعل رقمه يرحل برحيل صاحبه؟!.. لِمَ تأجيج الوجع كلما عبرتُ بجانب اسمه، و تصفَّحتُ رسائله وتلمَّستُ مضامينَها؟!. ثم أراجع نفسي وأقول: إذا كان صاحب هذا الرقم قد رحل من العالم العام، فلِمَ أجعل رقمَه ورسائله ترحل من عالمي الخاص؟! وإذا كنتُ لا أمتلك ذكرى واضحة منه أستطيع أن أحملها معي في كل الأرجاء سوى رقمه وبقايا رسائله النصيَّة، فمن الأَوْلى أن أحافظَ عليها حتى بعد رحيله، فهي غالية في معناها وأوقاتها في حياة صاحبها، فضلاً عن قيمتها ومعناها بعد رحيله، والتي تضاعفت، ولاشك!!. وإن كانَ قد رحل بجسده، فلْنجعل عبقَه وذكرياته تحفُّ بنا مهما تضاءلت، ولْنجعل رقمَه ورسائله التي كانت تحمل صدق مشاعره تسكن في جوالاتنا للأبد، فلطالما اتصلنا به على هذا الرقم، واتصل بنا من خلاله، وكان باعثاً مشتركاً للأصوات المحفوفة بالمشاعر والمصحوبة بالضحكات والمغلَّفة بالأخبار والمستجدات، وتلقينا من هذا الرقم الرسائل النصيَّة المطرَّزة بالتهاني والتبريكات، والملوَّنة بالحِكَم والنصائح، ولطالما أصبح هذا الرقم حلقة وصلٍ مُحكَمة جمعتنا بصاحبه باختلاف المكان والزمان، ولم تنفَضّ تلك الحلقة إلا بالرحيل، ولطالما أصبح استوديو الجوَّال قفصاً يحبس كثيراً من الصور ومقاطع الفيديو التي تُخفي وراءها كثيراً من القصص والذكريات، فيجب أن نَفِيَ لهذا الرقم وفاءً لصاحبه على أقل تقدير. كم من عزيزٍ لم أقتنع بنبأ وفاته، فصرت أحاول الاتصال به على جوَّاله، ولكنني لا أجدُ إلا رسالةً صوتيةً تقول: «إن الهاتف المطلوب لا يمكن الاتصال به الآن»، فأُوقِن أنَّ الطُّرق إليه كلها مؤصدة. بقي أن أقول لمَن هم تحت رحمة خالقهم وأرواحنا تتوق لعناقهم: «شذاكم لازال يملأ الأماكن التي ارتدناها معكم والتي جمعتنا بكم، وصدى أصواتكم لم يبرح زواياها. فعندما نزور المطاعم والمجمعات التجارية والكوفي شوبز نجد لكم بُقَعَ ضوءٍ لا تخفت أبداً، فنتأمَّل أماكن وقوفكم وأماكن جلوسكم وكأنكم لازلتم تشغلونها. جمعنا الله بكم في الفردوس الأعلى».