تعريف: «المثقف هو ضمير السلطة». بعد توجيه عبارات الشكر والعرفان لمقام وزارة الثقافة والإعلام على رعايتها لملتقى المثقفين الثاني، فلا يسعنا أن نتجاهل المفارقة: فالجهة الحكومية حين تفرض رعايتها على المثقف، فإنها تجرّده بشكل وبآخر من استقلاليته. إنها تضعه في مقام الطالب لرضاها والسابح في فلكها، حتى وإن ملأ الدنيا ضجيجاً واحتجاجاً على سياساتها وقراراتها، لا يغير ذلك من الأمر شيئا. واقع الحال أن «المؤسسة الثقافية» عندنا هي امتداد للجسد البيروقراطي. وهذه هي العلة الأولى التي يجدر بالوزارة أن تعالجها. هل تلغي وزارة الثقافة نفسها.. وهي التي لم تتحرر بعد من ارتباطها السيامي بالإعلام؟ ليس بالضرورة. لكن الثقافة كي تزدهر في هذا البلد، كي يصير للمثقفين صوت وتأثير، وقبل ذلك مناخ تتفتح فيه إبداعاتهم، فإنهم بحاجة لأن يمارسوا الحرية والاستقلالية بدون عين الحكومة ولا رقابتها، وبدون أن تصير الجهة الحكومية هي الخصم، وفق التعريف في رأس المقال، وهي الحَكَم أيضاً. الأسبوع الماضي أمر وزير الثقافة والإعلام بإعادة انتخابات نادي الشرقية الأدبي. لا تملك وأنت تبحث في تفاصيل هذا الخبر إلا أن تتحسر على أيام التعيين.. ثم تتحسر على الواقع الثقافي! الخصخصة هي الحل. إن أكبر خدمة يمكن أن تسديها المؤسسة الحكومية للحراك الثقافي في بلادنا أن تسلّمه للمساهمة الأهلية. أن تبذر بذرة «سوق» ثقافية يحدد العرض فيها مستوى الطلب. وهذه هي طبيعة الإبداع. المثقف هو بشكل أو بآخر فنان. أو المصطلحان مترادفان ما لم يثبت العكس. وكلا المبدعَين: المثقف والفنان، يحتاجان لأن يشطحا كي يبدعا وأن يستشعرا وجود تحدٍ ومنافسة، ورعاية مباشرة لا يمكن أن توفرها الوزارة هكذا بدون تبعات. يحتاجان لأجواء ديناميكية حافلة بالمعارض والندوات وبالجماهير والأضواء.. بدون أن يسرق المسؤول/الراعي الحكومي منهم هذه الأضواء. تلك المطالب لا يمكن أن تختلقها الجهة الحكومية لأنها ستتحول، طبيعياً، إلى مناسبات روتينية خاضعة للبند الرسمي الذي يصرف عليها، وستتحول أيضاً لفعل سياسي خاضع للمحاسبة الشعبية. رأينا ذلك في أحداث معارض الكتاب. عندنا أيضاً سوق عكاظ والجنادرية لنقيس ونقارن. المثقف والحكومي خصمان طبيعيان. أما المثقف الحكومي فكائنٌ مروّض، وأما الحكومي المثقف فضميرٌ مستتر. ما يحتاجه المشهد الثقافي المحلي، ولا يمكن لوزارة الثقافة أن تفي به، أن تتحول عينُه الراعية من رأسها إلى رأس المجتمع الأهلي. أن تصير هناك صالونات ثقافية، ونقابات حرة، وجمعيات ذات ميزانيات مستقلة لرعاية كل صنوف الثقافة والفنون. وأن تتعدد نسخها بتعدد مشارب وأهواء وأمزجة أصحابها، فلا يضطرون لأن يجلسوا على طاولة واحدة معاً على مضض ولا أن يزيفوا انتخاباتهم ليتجنبوا الاصطباح بخلق بعض. أم أن المعاناة هنا مقصودة لاستثارة الإلهام؟ الجهة الحكومية وإن وفرت غطاء الرعاية فإنها ستفشل في خلق بيئة التنافس. كيف يتنافس مصورو الشرقية إذا مثّلتهم -كلهم- جمعية واحدة؟ وروائيو الرياض؟ ومسرحيو جدة؟ وتشكيليو المدينة؟ كيف سيكللون بعضهم بغار المجد أو بشوك النقد وهم شركاء في ذات البيت؟ قبضة الحكومة لابد أن تنحلّ لتفلت منها عدة جمعيات وأندية واتحادات مُستقلة لكل ضرب من ضروب الثقافة والفن في كل مدينة سعودية كبرى. هذا الفائض في الموجود سيكون هو الغربال الحقيقي الذي سترشح عنه المواهب الحقيقية. عندنا مثال في طور التكوّن للرواية السعودية التي نفذت بجلدها لخارج الحدود نشراً وتسويقاً. مشهدنا الثقافي ينقصه التنوع إذاً. ويخنقه قيد البيروقراطية. المبدع ليس بحاجة لتصريح ولا ترخيص. ولا يطلب من الجهة الحكومية غير أن تكون نافذته ليمثل وطنه في المحافل إن أراد. وإلا فإنه موجود بعمله وإبداعه. وهو يريد منها أيضاً أن توفر له السقف القانوني الذي يحميه من الانتحال والتزييف. ما سوى ذلك فينبغي أن يُترك لأصحابه. لا مانع من وجود برنامج ثقافي حكومي.. لكل مستقل بدوره ويخاطب العموم والنشء. ذاك صميم عمل الحكومات. أما أن يصير هو الأصل والكل.. فظلمٌ بيّن. حراكنا الثقافي ناقص وكاريكاتوري أحياناً. إنه يظلم نفسه بالارتهان بالحكومي ويظلمه الحكومي باحتضانه تحت جناحه. لا يوجد حراك ثقافي معاصر بدون سينما.. السينما باتت هي الامتداد الطبيعي للفن الروائي.. وللفوتوغرافيا كذلك. ليس عندنا مسرح تجاري ولا شعبي. حركة النشر عندنا خاضعة للاحتساب الاعتباطي الذي حول معارض كتابنا لفضائحيات مدوية.لا يمكن لأن حكومة أن تختلق مواهب في التشكيل والنحت والشعر وبرامجها التعليمية قاصرة عن ذلك كله. هل يمكن للحكومي، الذي يقول أنه يريد أن يرضي كل الأطراف، أن ينصر فكرة على الأخرى؟ أو يؤيد تياراً على الآخر؟ نشر الفكرة والرأي هي عين الممارسة الثقافية.. وممارستنا الثقافية لن تغدو أصيلة حتى تتحرر من قيد الحكومي وتحلق في سمائها الخاصة.