بدأ صالح الشهوان مشواره في الكتابة الصحافية أوائل ثمانينات القرن الماضي، بمقالات أسبوعية في صفحة «حروف وأفكار» بصحيفة الرياض، وغيرها من الزوايا، كما تولى الإشراف على القسم الثقافي فيها، وأشرف كذلك على صفحات الثقافة في مجلة «اليمامة» و «شرفات الجزيرة». ومنذ سبع سنوات وهو يعمل في مستشاراً للتحرير في صحيفة «الاقتصادية» ويشرف على صفحات الرأي فيها ويكتب مقالته الأسبوعية «مجاز». من يتتبع خطاه الآن يجده قد ملّ الثقافة وردهاتها وأصبح لا يسلك طرقاتها إلا نادراً... فإلى تفاصيل الحوار من المثقف؟ كيف يمكن تعريفه؟ - إذا كان تعريف الثقافة قد اقتضى إحصاء 164 تعريفاً في القائمة التي وضعها في كتابهما عن الثقافة كل من ألفريد كروبير وكلايد كلوكهن عام 1952، يمكننا أن ندرك مدى صعوبة تعريف المثقف، وهو منتج الثقافة ومستهلكها.. إن هناك نظرة شعبية ترى المثقف صاحب امتياز فتحيطه بهالة مثالية كحالة نخبوية، وتنظيرياً هناك طيف من التعريفات من المؤدلج إلى اللامنتمي مع أنه الكائن الأشد التباساً وتناقضاً كما قال ريجيس دوبريه، فهو دائماً غير متصالح مع العالم، ليس بمعنى أنه يناصبه العداء وإنما لأنه بحسب تعبير مكسيم جوركي (جاء إلى العالم ليعترض)، فهو قلق يعيش إشكالاً مستداماً: ذاتي، اجتماعي، وجودي، نفسي، سياسي، اقتصادي .. وبشكل عام إشكال مزمن مع الآخر، سواء كان فرداً أم مؤسسة أم حتى نسقاً من الأنساق، ولأنه على هذا النحو فإنه يورط نفسه في مزاعم كبيرة، فهو يرى نفسه منتج أفكار ومعان، منذوراً لإصلاح العالم، في الوقت الذي هو الأشد تعطشاً للأفكار والمعاني كما هو دائم النزاع للتصالح مع ذاته .. من ناحية أخرى يقابل النظرة المثالية أو الملائكية للمثقف النظر إليه على أنه شخص مشاكس، نزق، متمرد .. وهو بالتأكيد ليس بريئاً منها، بل إنها جزء من امتيازاته لكن اللعنة تحيق حين يتم أبلسة المثقف أو شيطنته على أساسها.. إذاً، المثقف هو إشكال هذا التناقض الصارخ بين كونه ملاكاً أو شيطاناً عند الآخر، وبين كونه عند نفسه (الطاعن والطعين والجرح والسكين)، بتعبير بودلير أو (يحمل في الداخل ضده) بتعبير مظفر النواب! مصطلح الثقافة السعودية، هل نستطيع من خلاله الوصول إلى الثقافة العالمية؟ - إني أنظر إلى العالمية على أنها قدرة الإنتاج الثقافي على حبس الأنفاس أو عقد اللسان من الدهشة لأوسع وأطول مدى، أو إذا شئت، فالعالمية مقعد في قطار الخلود، لا دخل لها بالقصد والنيّات الطيبة، المسألة متعلقة بالحس الإنساني الحميم النفيس المشترك بين نفوس البشر، سواء حين تهزج الروح ويشتعل الرأس مرحاً أم حين تتقاطع الدروب وتدلهم الخطوب، إن العالمية، أخي خالد، تتحقق فقط في فذاذة التعبير عن جوهر هذا الصراع الإنساني. في الغالب تتلاعب الصحافة بالمثقف. يقول «كيلمنصو» إن الصحافة حبر وحديد وورق، فإذا كانت هذه السخرية بتشيئ الإنسان في الصحافة عمرها قرن تقريباً فكيف هو الحال بعد الإنترنت، إن المثقف مع الصحافة يسير على حبل مشدود على هاوية، التوازن مهمة شاقة، فهو إن تصاحف خسر نفسه وإن تثاقف أثقل على الآخرين وما بين المنزلتين أدهى وأمر!! البيئة الثقافية السعودية مم تشتكي؟ - لعل طامتها الكبرى معاناتها من الشبهة والاشتباه، فهناك ميل مفرط للتأويل، دأب لوضع الكلمات في الأفواه.. استقواءً بالماضي على المستقبل ومغالطة باهظة يبدو فيها النهم لحيازة منتجات حضارة الحداثة بآخر صيحاتها من سلع الاستهلاك والرفاه، مقابل امتعاض ومجافاة وازدراءً للبنية المعرفية، الفكرية، العلمية، والمنهجية التي أفرزتها.. ربما هي حالة فصام، دونك ما يحدث فلدينا حوار وطني في الردهات المكيفة المنضبطة، وتلاسن وغرائزية في الخارج، كما تقرأ أو تسمع ترصداً وأحكاماً مسبقة، حينا تداهن وحينا تسفر عن وجهها للإقصاء، وعلى رغم اللهاث وراء زركشات الشفافية وأخواتها والحفاوة بثقافة الاختلاف لفظياً فليست علاقتنا معهما سوية، بل تبدو نزعة إثارة الغبار عارمة. *المبادرات الثقافية عندنا هي تحت مظلة حكومية دائماً، هل يكفل لها ذلك النجاح والاستمرارية أم يجعلها أسيرة لتوجه معين؟ كيف وجدت تعامل المثقفين معك إبان إشرافك على القسم الثقافي في صحيفة «الرياض» ومجلة «اليمامة»؟« - هناك من رشقني بوردة، وهناك من رجمني بحجر، وهناك من أبدل وراء ظهري هذه بتلك، غير أنها كانت تجربة ثرية تعلمت منها واكتشفت فيها مساحة جهلي الذي تعاظم بعدها كثيراً. من يجيد صنع الأفخاخ للمثقفين في صحافتنا، فتشتعل الساحة حينها؟ - الأفخاخ للإيقاع بالوحوش المفترسة وأيضاً – يا للأسف - لصيد الطيور الوديعة. من يقع في الفخ لديه القابلية للوقوع فيه، على حد تعبير المفكر مالك بن نبي، غير أن صناعة الأفخاخ حيلة العاجز عن إغواء وجذب القراء إلى مائدته الثقافية، إنه كمن يتوسل ب «الشطة» لازدراد طعام غير سائغ لا يناله إلا لسعات حارقة ودموع. من يتابع مقالاتك أخيراً يرصد أنها لا تهتم كثيراً بالشأن الثقافي السعودي، هل مللت أم أن لا شيء يستحق؟ - أنت في سؤالك تتحدث عن الجانب الإبداعي من الثقافة، وأنا أوافقك على أن مقالاتي تركت الساحة في هذا الشأن لمن هم أقدر مني وأجدر وأشد التحاماً به، ومع أن هناك زخماً من الرواية والقصة والشعر والتشكيل يمتلك جاذبية حضوره الوهاج في الشكل والمضمون إلا أنه يواجه مع الأسف بعزوف عن مقاربته قرائياً أو نقدياً. الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون... ألا تستحق التقاعد لتخرج بعدها مؤسسات أكثر فاعلية في الوسط؟ - تقاعد الأندية الأدبية وجمعية الثقافة والفنون لا يحل المشكلة، إن أي هياكل جديدة سوف تنشأ ستعيدنا إلى معضلة تخثر الأداء... إن الثقافة بطبيعتها ديناميكية... الإجراءات البيروقراطية تحبطها وتثبّطها... لا بد من فك ارتباط الأندية والجمعية وغيرها من هياكل أخرى مطلوب إنشاؤها كهيئة للكتاب، ودار للترجمة ومعهد للفنون... إلخ، أقول لا بد من فك ارتباطها عن وزارة الثقافة والإعلام لتكون كيانات مستقلة بموازناتها وصلاحياتها، عندها سيشتعل الحماس والمنافسة فيما بينها ويتدفق الدم في عروق ثقافتنا حاراً عفياً... أو هكذا آمل. كثرة نتاجنا الثقافي بأنواعه دليل خير لنا أم غير ذلك؟ - كثرة الإنتاج الثقافي من دون حدوث تحوّل في القيمة ليست سوى ظاهرة تكدّس، ومع ذلك فقد يؤدي تراكم الكم إلى الكيف... يقول المثل الأميركي: عندما ينحسر المد سوف نعرف من كان يسبح عارياً. الليبرالية، الحداثة، السلفية، ألا تشعر بأنها سبب رئيسي في تعطيل الحياة الثقافية عندنا؟ - الليبرالية، الحداثة، السلفية وغيرها، ما هي إلا عناوين لتيارات فكرية ظلت مثار جدل منذ أكثر من قرنين، مع فولتير وروسو وتوم بين وحتى اليوم، وقد أثرت الثقافة ولم تعطلها غير أن جدلنا حولها كان في الغالب الأعم هجاءً، وجدلهم كان لإذكاء الوعي وتوسيع نطاق المعرفة، وطبعاً لم يكن جدلهم بمجمله ناعماً، بل كانت له صولات خشنة جداً، لكن ليس للحد الذي يقصي ويختزل الآخرين، إن العلة أخي خالد تكمن في طريقة تمثلنا لمنظومة القيم والأخلاق عندنا، ففي الوقت الذي نصر فيه على أنها سمحة وأصيلة نتنابز ونتنابذ.. ألم أقل لك من قبل: مقاعد الدراسة مصدر الاعوجاج؟! مناهجنا التعليمية، هل تساعد طلابنا على طرق أبواب الثقافة؟ - كنت قد أشرت إلى أن مناهجنا قد أهلتنا للعراك والتنابذ وليس للحوار والتواصل، (أعني على المستوى الفكري)، وإنه لمن غير الممكن المجازفة بالقول إنها مناهج تساعد طلابنا على طرق أبواب الثقافة، لأن خاصية إثارة الفضول إلى المعرفة تتطلب مسبقاً وبالضرورة توافر منهجية احترام المعرفة نفسها وكذلك منهجية احترام من يفترض إثارة فضوله إليها، هذا ليس بالسائد فالتلقين والحشو والزجر أرسخ في مدارسنا من قانون الطفو لأرشميدس!! - في الغالب تتلاعب الصحافة بالمثقف. يقول «كيلمنصو» إن الصحافة حبر وحديد وورق، فإذا كانت هذه السخرية بتشيئ الإنسان في الصحافة عمرها قرن تقريباً فكيف هي الحال بعد الإنترنت، إن المثقف مع الصحافة يسير على حبل مشدود على هاوية، التوازن مهمة شاقة، فهو إن تصاحف خسر نفسه وإن تثاقف أثقل على الآخرين، وما بين المنزلتين أدهى وأمر! تمثيلنا في الخارج، هل يتم اختيار الأسماء بعناية؟ - ربما تقصد (بعناية) الكفاءة. إنني أحسن الظن بأن من يقوم باقتراح الأسماء يتحرى الجدارة، لكن كثيرة هي الجدارات التي ذهبت ضحية عادة المسؤول العتيدة في العودة إلى الدفاتر القديمة! ضيوف المهرجانات والمعارض عندنا، كيف ترى آلية اختيارهم؟ - آلية الدفاتر القديمة السابقة تكاد تنطبق عليها ما لم يتبرع أحد بالفزعة باقتراح اسم جديد، عندها قد يحالفه النجاح في الحضور في ما لو تم تقديمه كمثقف مبدع إنسان، خارج الأقواس أو البرواز. المدونات والصفحات الإلكترونية، هل تبشر بثقافة جديدة عندنا؟ - أنا منحاز للمستقبل مهما راودني الحنين للماضي، ولن تكون علاقتي العاطفية مع الكتاب والورق والقلم إلا حالة رمزية لعالم كان وقد انعطف عنه التطور انعطافاً حاداً، ليس نحو المدونات الإلكترونية وإنما كذلك لما لا يخطر على أشد العقول توقداً واستشرافاً. وبالتالي فانحيازي للمستقبل انحياز أيضاً للبشري بثقافة جديدة في المدونات وما بعدها، عندنا كما عند سوانا، ستكون حتماً أثرى وأمتع! القناة الثقافية السعودية، كيف لنا أن نرفع نسب المشاهدة فيها؟ - في ظل فيض الصخب الفضائي تصعب استمالة المشاهد لقناة ثقافية، بل يبدو لي أننا مازلنا مسكونين بحس رومانسي في أن الثقافة تمتلك قدرة على الإغراء والجذب، على النحو السابق، فقد تآكلت واستهلكت كل الوسائل التقليدية في تقديم برامج الثقافة، وبتنا حقيقة في مأزق، ليس لفقر في الخيال، وإنما لأن عصر الفضاء يتطلب تأهيلاً فائقاً في القوى البشرية، ويتطلب آلية تمويل سخية متجددة وجاهزة للتو واللحظة، فضلاً عن أهمية وجود مناخ بث لا يطبق المسطرة والفرجار على مجال افتراضي!