قدمت الحضارة الإسلامية للعالم علماً أصيلاً فأضاءت به وجه الإنسانية. وهذه حقيقية لا يختلف عليها الشرق أو الغرب بل إن الغرب نفسه يُرجع الفضل في بعض إنجازاته العلمية إلى الإسهامات العلمية للحضارة الإسلامية. إلا أن الحضارة العلمية الإسلامية مع مرور الزمن، خفت ضوؤها – إن جاز هذا التعبير- لتدخل غياهب التاريخ، الأمر الذي لا يبشِّر معه بعودتها إلى سابق عهدها؛ حيث انتقلت الأمة الإسلامية من دور المصدِّر للعلم إلى دور المستهلك له، وياليتها مستهلك عقلاني، بل تستهلك في كل شيء تقريباً، فبدأت تستورد ما كانت هي مَن وضعت بعض بذور اختراعاته من منتجات وتقنية وفوق ذلك القيم. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن ماذا ينقص الأمة الإسلامية حتى تستطيع أن تتبوأ المكانة العلمية المرموقة مرة أخرى؟ أم إنه من الصعوبة بمكان أن ترجع إلى سابق عهدها، إذا سلمنا بالمقولة العرفية «الشيء الذي يخفت لا يمكن لمعانه من جديد»؟. فإذا كان معيار المكانة الدولية المعتبرة في العالم مرده العلم، فهل الأمة الإسلامية ينقصها العلم اليوم؟ إذا كانت الإجابة بنعم، فقد نجحف حق علمائها الذين تتهافت عليهم أكبر الجامعات والمؤسسات والشركات العالمية لاحتضانهم، والذين بالفعل تولوا مناصب عالمية متنوعة فقدَّموا للإنسانية الإضاءات والإبداعات المختلفة، والأمثلة في هذا المضمار كثيرة يصعب ذكر أحدها وإغفال معظمها. أما إذا كانت الإجابة بلا، فسنكون غير موضعيين. وفي كلتا الحالتين، علينا تحديد طبيعة العلم الذي ذاع به صيت الأمة الإسلامية وذلك العلم الذي لم تكن صاحبة السبق فيه. فلقد برع علماء الإسلام في العلوم الدينية والطبيعية والاجتماعية…إلخ، أما العلوم الإدارية فلنا وقفة تاريخية علمية محايدة نستشف من خلالها بداية انحدار تأثير الحضارة العلمية الإسلامية. ومرد هذه الوقفة، يكمن في تأسيس أصول علم الإدارة الحديث، حيث لم ينشأ بين جنبات الأمة الإسلامية. فالحضارة العلمية الإسلامية، قد مارست قواعد الإدارة ولكن، لم تؤسس أصول علمه. والمنطق هنا، يطل برأسه ولسان حاله يستفسر عن لماذا لم تؤسس لتتفوق الأمة الإسلامية علم الإدارة على الرغم من تفوقها في باقي العلوم، أوليست العقول والبيئة العلمية والزمانية والمكانية كانت واحدة؟. ولماذا هذه، يستطيع أن يؤلف جيش من العلماء حولها الكتب. إلا أن الكتب وحدها، لن تغيِّر من واقع الأمة بشيء حتى تستطيع أن تكون أمة اقرأ قادرة بالفعل أن تقرأ أولاً وتستوعب ما تقرأه ثم ثانياً أن تقوم بالتخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة قولاً وفعلاً. وحين الرجوع لعهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- نجد أنه -عليه الصلاة والسلام- اهتم بالإدارة فتجدها واقعاً ملموساً في مراحل دعوته. ولعل تنظيم عمل الدعوة الإسلامية في بدايتها سرى خير مثال على إتقان ذلك العهد للإدارة. ومع بداية انتشار الإسلام في مكةالمكرمة ليمتد إلى المدينةالمنورة، ظهرت الحاجة لإنشاء دولة الإسلام. حيث كانت من ملامحها الأولية الإدارية وثيقة المدينة مع اليهود القاطنين بها وبناء جيش يحافظ عليها. فتم بناء الجيش وفق الخطط الاستراتيجية وتدريبه وتنظيمه. وعلى الرغم من أن الوظائف الأولى للدولة الإسلامية، كانت قائمة على ماهو متعارف عليه في علم الإدارة اليوم، إلا أنها نفذت ومورست وفق اجتهادات إدارية شخصية من قبل الصحابة رضوان الله عليهم وبتوجهات الرسول -صلى الله عليه وسلم-. وحين توالت الانتصارات والفتوحات الإسلامية، نشأت الإمارات الإسلامية في البقاع التي وصلت إليها الدعوة، الأمر الذي يتطلب معه اهتماماً أكثر بالادارة. حيث استحدثت مناصب إدارية مثل أمراء الإمارات والوزراء والدوواين وجباية الزكاة والجزية…إلخ. إلا أن التراث الإداري الإسلامي الذي بدا منذ عهد النبوة ووصولا للخلافات الإسلامية المتتالية، لم يواكبه علماء من أبنائه ليأصلوا الإرث الإداري ويجعلوه قواعد ومبادئ علمية. ويظهرتأثير غياب تأصيل التراث الإداري الإسلامي وفق النموذج العلمي في أواخر أيام الخلافة العثمانية. حيث إن الخلافة العثمانية القوية في بدايتها، لم تكن تنقصها العلوم الطبيعية بل العلوم الإنسانية التي تنتمي إليها العلوم الإدارية. تلك العلوم، إن وجدت، لربما لم تنهر الخلافة العثمانية. ولهذا فإن الباب العالي حين شعر بصعوبة إدارة أقاليمه مترامية الأطراف وتراكمت ديونه وضعفت أرقام ميزانيته، طلب من أوروبا القريبة منه جغرافيا الاستفادة من أصول علم الإدارة. فأصدر المرسوم العثماني آنذاك قانون «التنظيمات». وهنا، بدأت الحضارة الإسلامية تدخل مرحلة استيراد العلم بعد أن كانت هي من تصدره. فالحلقة الأضعف التي واجهت وستواجه الحضارة العلمية الإسلامية ليست العلوم الطبيعية، بل العلوم الإدارية. ولهذ، فإن الأمة الإسلامية بحاجة ماسة إلى الاهتمام بهذا العلم من حيث تطويره ومعاملته المعاملة العلمية المستحقة.