كان (توماس أديسون) عالماً عظيماً ولا شك، ربما أعظم علماء القرن العشرين على الإطلاق بأكثر من ألف براءة اختراع في الولاياتالمتحدة وحدها، عدا الاختراعات الأخرى المسجلة في بريطانيا وفرنسا وألمانيا. إنه الرجل الذي أضاء العالم بمصباحه الكهربائي، ونقله إلى الحضارة الحديثة، وأعاد تعريفنا للزمن بشكل جذري. أديسون الذي اخترع كذلك التيار الكهربائي ومحطات التوليد ومنح الناس تذكرة باتجاه واحد للدخول في عصر الرفاهية. لا شك أنه كان فخراً للأمة الناشئة حديثاً ونصراً للجمهورية الجديدة وأفكارها ومبادئها، فنجاح أديسون الساحق كان ظاهرة في حد ذاتها، فهو لم يكن مخترعاً تقليدياً من الطراز القديم، بل رجل أعمال موهوب يتشمم الفرص واحتياج السوق ليوجه أبحاثه، حيث الربح المضمون فيخلق معادلة مثالية للمجتمع الأمريكي الحر في أحسن حالاته، معادلة (رابح/رابح)، المجتمع يتطور والتاجر يكسب، فيتوسع في الأبحاث وينتج المزيد من السلع والاختراعات التي تدفع المجتمع نحو مزيد من التطور والرفاهية وتتكرر الدائرة وتتناسخ إلى ما لا نهاية. لذلك كان أديسون رجل الساعة بلا منازع، صاحب أكبر شركة كهرباء وأكبر معامل أبحاث وفريق عريض من البحاثة الموهوبين وأرصدة متراكمة في البنوك وعلاقات نافذة بالصحافة والإعلام ورجال الدولة، كان مثالاً للرجل الكامل الموهوب الذي لا يتكرر، الذي يتشرف الجميع بالاقتراب منه والتعرف إليه. إلا أن ذلك الجانب المشرق من القصة له خباياه المظلمة كذلك، فالعالم والمخترع العبقري لم يكن نزيهاً على طول الخط، ومر بفترات سيطرت فيها نزواته التجارية على قيمه العلمية، فاتهم بسرقة أبحاث واختراعات علماء آخرين، وتسجيلها تحت اسمه طمعاً في الربح حيناً وبدافع الغيرة أحياناً أخرى. ولعل أشهر تلك المعارك غير النزيهة وأكثرها ضراوة تلك التي خاضها أديسون ضد عالم آخر هو (نيكولا تسلا)، فهذه المعركة بالذات امتدت لعقود ولم ينهها إلا الموت، وكلفت البشرية جمعاء خسائر لا تقدر بثمن. خسائر ندفع ثمنها اليوم وحتى سنوات أخرى مقبلة. بدأ (تسلا) حياته كمهندس صغير في شركة أديسون قبل أن يدب الخلاف بينهما بسبب تراجع أديسون عن مكافأة وعده بها بعد أن أوجد له حلولاً لمشكلات تقنية معقدة، ترك المهندس الغاضب العمل لدى سيده، وبدأ أبحاثه بشكل مستقل، وهو ما لم يغفره له أديسون أبداً، خصوصاً عندما خرج تسلا بأول اختراعاته العبقرية، وهو التيار الكهربائي المتردد (AC)، الذي كان أكثر نجاعة وفعالية من تيار أديسون الثابت (DC)، هنا ثارت ثائرة الأخير فشن حرباً ضروساً على تسلا واختراعه، وأخذ يبث الإشاعات بين الناس بأن التيار المتردد خطير ويقتل الناس، ولكي يثبت تلك الفكرة قام باختراع كرسي الإعدام الكهربائي باستخدام التيار المتردد. أجل يا صديقي، كرسي الإعدام الكهربائي كان وسيلة أديسون للدعاية المضادة ضد التيار المتردد، لكن المعركة حسمت في النهاية لصالح التيار المتردد فلم يتقبل أديسون الهزيمة، وشن حرباً شخصية ضد تسلا جعلته يلاقي صعوبات بالغة في تمويل أبحاثه، وانتهت به الحال أن يموت فقيراً معدماً حاقداً على الدنيا، ولتعرف فداحة الخسارة فلك أن تتخيل أن تسلا اخترع الراديو قبل ماركوني بعشر سنوات، واخترع جهاز الرادار قبل ظهوره بخمس وعشرين سنة، وعرض المخطط على الحكومة لكن أديسون أقنعها برفضه، كما أنه نجح في اختراع نمط للموجات الكهربائية يجعلها تنتقل لاسلكياً، وأضاء بالفعل أكثر من مائتي مصباح على بعد أميال من معمله بدون تمديدات، لكن لم يكتب له أن يكمل تجاربه لأنه فشل في إيجاد ممول يصرف على أبحاثه الباهظة، وسط حملات التشكيك والترهيب المتصلة من أديسون. هل يذكرك صراع أديسون – تسلا بشيء؟ إنه صراع المصالح الضيقة والأفكار المنغلقة التي تمردت على المنطق الأشمل والفضاء الأوسع للصالح العام. وقد دفع المجتمع ثمناً باهظاً نتيجة خضوعه لنفوذ وهيبة (العاِلم/ النجم) دون أن يحاسبه أو يسائله، فسُخرت الدولة بكامل أدواتها لتصبح أداة للصراع في يد طرف من الأطراف، ولتسحق الطرف الآخر بلا هوادة. والخلاصة؟.. لا خلاصة هناك، فقط علينا أن نتذكر أن البشر، كل البشر، يخضعون لذات المغريات، وأن لا أحد مهما بلغت عبقريته وعلمه يؤخذ كلامه دون نقد وتمحيص!