ثمة علاقة تجمعني ومصحح اللغة العربية في الجريدة التي أعمل (أو أكتب) فيها، كلانا قارئ جيد للآخر، هو يعرف مواطن ضعفي فيعالجها في الخفاء ليطلع عليها القارئ دون أخطاء، وأنا أشكره في سري دون أن يعلم بذلك! وإذا أردت – سيدي القارئ – أن تعرف أهمية الدور الذي يلعبه مصحح اللغة العربية في تهذيب ما يكتبه الصحافيون، فعليك أن تتخيَّل صدور الصحيفة دون مراجعة لُغوية، وحجم الكوارث التي قد تنشأ عن ذلك، وأولها أنك ستغير رأيك في كاتبك المفضَّل، عندما تكتشف وقوعه في أخطاء لغوية ساذجة (!) فلا تصدق أنك تقرأ لنجم كبير في عالم الصحافة، وقلمه يقع في هفوات لا يشاركه فيها إلا تلميذ مرحلة ابتدائية! والمصحح في الصحيفة هو الجندي المجهول الذي يقوم بمهمة حفظ اللغة العربية من كل يد تمتد إليها بسوء والتي دائماً هي يدنا نحن الكُتّاب! أما إذا قرأت كتاباً لعالِم، أو مفكِّر، أو أديب، لم يَدلُ فيه المصحح بدلوه فربما وصل بك الأمر لأن تنقطع نهائياً عن مطالعة أضخم الأسماء التي أثرت معرفتك وسقت وجدانك، وغيرت كثيراً في حياتك. توقيع المصحح هو جواز المرور لأي عمل يُكتب باللغة العربية، من دونه يفقد الكاتب ثقة القارئ، ولا يضمن لعمله النجاح، وتوجّه إليه انتقادات لاذعة، قد تجعله يتوقف عن النشر مرة أخرى، كما أن وسيلة النشر سواء كانت كتاباً، أو صحيفة، أو مجلة، لا يمكنها أن تصدر دون مراجعة لغوية تحميها من تشويه المادة المطبوعة وتوفر لها الذيوع والانتشار في العالمين العربي والإسلامي. وعمل المصحح يتسم بالسرعة والدقة، فعيناه المدربتان تمر على عشرات الآلاف من الكلمات في زمن قصير، في الوقت الذي لا تكف يده عن تصويب الأخطاء – إن وجدت – سواء المتعلقة بالرسم الصحيح للكلمة، أو وضعها في الجملة بطريقة نحوية سليمة، فضلاً عن مراعاة علامات الترقيم التي ترشدك سيدي القارئ إلى التوقف تارة لالتقاط الأنفاس بوضع نقطة تنهي الفقرة، أو تقسيم الكلام بوضع فصلات تنظِّم سيرك بين الجمل.. الخ وإذا كانت الصحف، والمجلات، ودور النشر تتجاهل كتابة أسماء المصححين فأظن أن هذا يحتاج إلى تصحيح. من حق زميلنا أن يفاخر بمهنته ويوفر لها الانتشار لتكون وظيفته هدفاً يسعى إليه الطامحون، ليأتي يوم نجد فيه بين أبنائنا من يقول: عندما أكبر سأصبح مصححاً لغوياً! الموضوع يستحق الاهتمام، والمؤازرة، والاعتراف بعمل لا يستقيم وجودنا العربي دونه. حان الوقت لنتمسك بآخر جماعة عربية لم تصل إليها سهام الانقسامات، ولم تؤثر فيها الحدود، والانتماءات العرقية، واللهجات المتصارعة، والانحيازات السياسية المتقاتلة، والأيديولوجيات المتناحرة. لُغتنا العربية هي عفة الدين الإسلامي، وسر تفرده، دفاعنا عن القائمين عليها واجب، وتكريمنا لهم في مدارسنا وصحفنا هو تثمين لجهد إذا توقف كان بمنزلة تبديد لما نمتلكه من كنوز تاريخية، وحجج دينية لا تقدر بمال. آخر سطر: المصحح اللغوي في الصحيفة مثل الطبيب النفسي..لا يبوح بأسرار المرضى!