عبدالرحمن بن عمر المدخلي فجع العالم الإسلامي بوفاة أحد علمائه الكبار الذين جمعوا بين العلم والحكمة، والوقار والبساطة، والخلق الحسن الجميل، ممن ألقي له القبول في الأرض، فقد أحبه القاصي والداني، ولاشك أن فقد العلماء ثُلمة لا تعوض وكسر لايجبر، وإن الله لايقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، وإنما يقبضه بموت العلماء، كما صح بذلك الحديث. عالمنا الذي فقدناه هو المحدث الفقيه الخطيب الأديب الأريب، العالم الكبير معالي الشيخ محمد بن عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز آل عثمان «الملقب بالسبيّل»، الذي طالما سمعنا صوته بكلام الله العزيز بجوار الكعبة المشرفة ينساب في جنبات المسجد الحرام وأروقته، في صلاة الفجر والعشاء، وفي الجمعة والعيدين وغيرها، وفي صلاتي التراويح والقيام حينما كان يحييهما بصوته الرخيم ونبرته الخاشعة وحفظه المتقن. كان شيخنا ذا أخلاق عالية وتواضع جم وأدب رفيع واهتمامات متنوعة كما شأن العلماء الكبار؛ فبينما هو مشغول في مكةالمكرمة بشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، ومعهد الحرم، ودار الحديث، ودروسه العلمية المستمرة، وفقراء الحرم؛ لم يغفل عن إخوانه في شتى أرجاء المعمورة، في الداخل والخارج، يتفقدهم ويواسيهم ويزورهم ويتلمس احتياجاتهم، بكل صدر رحب وتفانٍ، وأذكر هنا إحدى زيارات معاليه كبرهان على ما أقول. ففي أحد أيام شهر ربيع الثاني من عام 1407ه كان معالي الشيخ على موعد مع سيدي الوالد الشيخ عمر بن أحمد جردي المدخلي – رحمه الله وغفر له – لزيارة منطقة جازان، ولما علم أهالي المنطقة بهذا الموعد تلهفوا لملاقاة معاليه واشتاقوا لرؤيته، لما يكنونه لمعاليه من محبة واحترام، وكان الهدف من هذه الزيارة الاطلاع على سير العمل في جامع كبير تم إنشاؤه على نفقة الأميرة الجوهرة، بواسطة معالي الشيخ محمد السبيّل، وإشراف مباشر من سيدي الوالد، وهذا الجامع يقع في محافظة الطوال بجوار المنفذ الحدودي مع الجمهورية اليمنية، وقد رغَّب إليه الوالد المجيء إلى جازان للاستئناس برأيه في بعض الأمور في الجامع، وصادف ذلك رغبة لدى معالي الشيخ، فجاء معاليه إلى المنطقة عن طريق البرّ مع مرافقيه. ووقف معاليه في الصباح على الجامع وتجول في أنحائه، ولمّا يكتمل، إذ كان في مرحلة صبّ السقف، وقد أعجب بالعمل كثيرا وسُرّ بما رأى، وظهر على محياه الفرح والسرور، و شكر الوالد على جهوده وأشاد به، وقد اقترح الشيخ عبدالله السلطان وأيده معالي الشيخ محمد؛ إضافة صالتين كبيرتين لاستراحة المسافرين من الرجال والنساء، في أرضية الجامع من الجهة الجنوبية، يتم تجهيزها بالفرش والتكييف والماء البارد ودورات المياه، وتكون مفتوحة باستمرار مجانا للمسافرين، كما رأوا حفر بئر ارتوازية داخل أرض المسجد وشراء مضخة لها، نظرا لعدم وجود شبكة مياه في ذلك الوقت. ثم غادروا الموقع، وفي الطريق قصّ معالي الشيخ على والدي ماحصل له أول عام 1400ه حينما كاد أن يقتل في الحرم إبان فتنة جهيمان وزمرته، حيث كان معاليه إماما لصلاة الفجر ذلك اليوم. و قد أقام سيدي الوالد مأدبة غداء كبيرة في منزله بصامطة تليق بمقام معالي الشيخ محمد والمرافقين له، دعا لها العلماء والقضاة وكبار المسؤولين والوجهاء والأعيان، وتجاذبوا أطراف الحديث، في جو ممتع وجلسة لاتُنسى. وقد لقي سيدي الوالد لدى معالي الشيخ محمد السبيّل بعض المعلومات عن شيخه الشيخ عبدالله القرعاوي ؛ فأضافها الوالد في كتاب:»النهضة الإصلاحية في جنوب المملكة العربية السعودية لصاحبها الشيخ عبدالله بن محمد القرعاوي» ، وعزاها لمعالي الشيخ محمد السبيّل. وكان سيدي الوالد على تواصل مستمر مع معالي الشيخ، وقلّ أن يذهب إلى مكةالمكرمة إلاّ ويقابل معالي الشيخ ويجلس معه، ويتحدثان طويلا حول كثير من القضايا، خاصة الأعمال الخيرية. ولمعالي الشيخ محمد السبيّل أعمال خيرية في جهاتنا غير ما ذكر، وكان سيدي الوالد يشرف عليها ويتابعها بمساعدة أخي الدكتور عبدالله، فمن ذلك بناء جامع قرية الحضرور على الطراز الحديث، ثم توسعته بعد عدة سنوات من بنائه، بأكبر من بنائه الأول، ومن تلك الأعمال الخيرية تسوير مقبرة قرية الواسط، وهي مقبرة كبيرة مترامية الأطراف، جرف السيل جزءاً منها، فعمل لها سورا يحفظها، وغير ذلك من أعمال البرّ والصدقات. وقد زار معالي الشيخ محمد منطقة جازان غير تلك المرة، فقد دعي للمشاركة في دورة الشيخ القرعاوي التي تُقام في منطقة جازان كل عام، منذ عام 1415ه ، فأجاب الدعوة وألقى عدة محاضرات ودروسا علمية وذلك في شهر ربيع الثاني من عام1422ه، وقد استفاد طلاب العلم ومحبي الشيخ من علمه. هذا ما كان بشأن علاقة معالي الشيخ وسيدي الوالد، وزيارات معالي الشيخ لمنطقة جازان، أما بالنسبة لي شخصيا، فقد كنت أرافق سيدي الوالد في بعض زياراته لمعالي الشيخ، وفي إحدى زياراتي الخاصة لمعالي الشيخ في بيته بمكةالمكرمة طلبت منه أن يجيزني بمروياته في علم الحديث، فشرفني بإجابته لي، وأجازني، وأحالني على ثبته الموجود لدى أحد أبنائه. ولد معالي شيخنا عام 1345ه في مدينة البكيرية بمنطقة القصيم. ونشأ في بيت علم وديانة، فقد حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة على يد والده وعلى الشيخ عبد الرحمن الكريديس، ثم قرأه بعد ذلك في مكةالمكرمة على الشيخ سعدي ياسين اللبناني. وتلقى العلوم الشرعية والعربية على الطريقة القديمة في حلقات المساجد على عدد من العلماء والمشايخ في بلدته: أمثال الشيخ محمد المعيقل قاضي البكيرية، ثم انتقل إلى مدينة بريدة وأخذ العلم على سماحة الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد حينما كان رئيسا لمحاكم القصيم. ثم لما انتقل إلى مكةالمكرمة قرأ على الشيخ عبد الحق بن محمد الهاشمي، والشيخ أبي سعيد عبدالله الهندي، في علم الحديث. وعمل الشيخ في عدة مجالات، بداية بالتعليم في المدارس التابعة لوزارة المعارف آنذاك، ثم انتقل إلى المعاهد العلمية التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في عام 1373 وهو أول عام افتتح فيه المعهد العلمي في بريدة، وقد أمضى في التعليم ما يقارب العشرين عاما. وفي عام 1385ه عين إماماً وخطيبا للمسجد الحرام، ورئيسا للمدرسين والمراقبين فيه، بترشيح من شيخه سماحة الشيخ عبدالله بن حميد، واستمر أربعة وأربعين عاما حتى اعتذر عن ذلك عام 1429ه . ثم عين نائبا لرئيس الإشراف الديني على المسجد الحرام عام 1390ه، حتى عين رئيسا للرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام و المسجد النبوي عام 1411ه. وكان معالي الشيخ مشاركا في عدد من المجامع العلمية العالمية، وعضوا فاعلا فيها، فهو: عضو بالمجمع الفقهي في رابطة العالم الإسلامي منذ تأسيسه عام 1398ه، وعضو في هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية من عام 1413 إلى عام 1427ه، لمدة أربعة عشر عاما. وتولى معاليه رئاسة لجنة تحديد أعلام الحرم المكي التي شكلت بناء على قرار هيئة كبار العلماء عام 1412ه. وكان معاليه يقوم بجولات دعوية في كثير من بلدان العالم، و كانت أول زيارة له في عام 1390ه لجمهورية غينيا، وقد زار أكثر من خمسين دولة، كان من آخرها زيارته لليابان عام 1424ه . وكان لمعاليه حضور إعلامي، فقد شارك في عدة برامج إذاعية أذيعت في فترات متفرقة، وشارك في برنامج «نور على الدرب» من عام 1420ه إلى عام 1427ه. وله عدة مؤلفات ومجموعة خطب، ومع علمية الشيخ ومكانته فقد كان شاعرا أصيلا، وله ديوان مطبوع. تتلمذ على يديه عدد من كبار العلماء والمشايخ، ممن تبوأ مناصب علمية عالية. ومع جهود معالي الشيخ العلمية والإعلامية، فقد كان له حضور في المجال الاجتماعي، فقد ناقش كثيرا من القضايا الاجتماعية عبر منبر الحرم، وكان معاليه رئيسا للجمعية الخيرية للمساعدة على الزواج والرعاية الأسرية في مكةالمكرمة لسنوات طويلة، وغير ذلك من المجالات الاجتماعية. وقد نزلت بمعالي شيخنا الأمراض والعلل، وأُدخل المستشفى عدة مرات، زيادة له في الأجر ورفعة له في المنزلة، حتى وافاه الأجل عصر يوم الإثنين الرابع من شهر صفر من عام أربعة وثلاثين وأربعمائة وألف، وقد أصدر الديوان الملكي بيانا بذلك، وصُلي عليه بالمسجد الحرام عصر اليوم التالي في جنازة مهيبة مشهودة، وشارك في ذلك أخي الأستاذ عبدالرزاق نيابة عن الأسرة، وفاء بحق معالي الشيخ ووده لوالدي، و وُورِي جثمان معاليه في مقبرة العدل بجوار أقرانه ومشائخه، بعد حياة طويلة طيبة مملوءة بطاعة الله منذ بداية شبابه، وقد توفي عن ثمانٍ وثمانين سنة. رحم الله شيخنا ووالدينا وأسكنهم بحبوحة جنته، وألبسهم تاج وقاره وثوب كرامته، وخلفهم في عقبهم خيرا، وجمعنا بهم في الفردوس الأعلى. عضو هيئة التدريس بجامعة جازان