ليلة هادئة وسكون يغمر المكان، إلا في بيت الشيخ مبارك.. الشيخ المبارك بات ليلته في نزع الحياة و(هيا) عند رأسه.. تتغشاه سكرات الموت فيؤذن.. الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله.. ثم يستفيق نصف استفاقة.. هيا (هاتي الإبريق) تنتحب هيا في صمت.. خمسة أعوام مرت على الرفيقين.. عندما هلك محمد ابن الشيخ المبارك وزوجته حصة.. لزمت هيا والدها المريض وعكفت على خدمته.. كثيراً ما رددت على مسامع نساء القرية (لو أني درست كنت الحين مديرة مدرسة)، يغرق الشيخ مبارك في نزع أخير.. يمسك بيد (هيا) وينظر في الدار الخالية (هيا أمانة الأموات للأحياء).. تفيض روحه على أذان الفجر وتطوى صفحة الرفقة للسنوات الخمس عشرة. تربصت هيا لعمها أبوحسين على مدخل منزل والدها وبمروره أخبرته بأن الشيح تبع أحبابه.. حوقل أبوحسين واسترجع، وبعد الفجر أجمع الجماعة على إكرام الميت ودفنه.. انتقلت هيا إلى بيت عمها قبل أن يدفن والدها.. استقبلتها (جمعة) زوجة عمها بالباب وأرشدتها إلى مكانها.. (المطبخ أبغاه يلق) ردت هيا بأنفة (ولاية الظالم على مال اليتيم). أظلم الليل الأول لهيا خارج بيت أبيها.. وهي موقنة أنها لن تدخل البيت إلا زائرة مادامت لها الحياة.. وفي زاوية أخرى من بيت العم أبوحسين كانت تهمس العمة جمعة (لا هي صغيرة ولا هي مدرسة من هو الخبل اللي ويلقفها ويفكنى منها).. أبوحسين وهو يعد خرزات السبحة (والله البلشة). لم يدم العزاء طويلاً وودع الشيخ مبارك الدنيا كأن لم يعِشها.. في آخر لحظات العزاء موكب يطير في الأزقة.. (الشيخ سالم العلي جاي وربعه) قالها (مهراس القهوجي).. (رجع الزل يا محروم أبومحمود جاء) أبوحسين وقد اعتصب بشماغه البرتقالي.. (شف راس أبوحسين كأنه حبة يوسفي نجراني.. فاضخ ذا مو براس ذي قرعة صيف) تعالت ضحكات شباب الحارة، وهشهشهم أبوحسين بابتسامة.. وقلبه يتميز من الغيظ. (حيا الله الشيخ أبومحمود).. أبومحمود ينزل من السيارة وفي يده السيجارة.. ينبهه أحد المرافقين (احح طال عمرك).. يشد منها نفساً عميقاً ثم يرمي بها.. (أحسن الله عزاءكم في من فاتكم).. (الله يكتب لكم الأجر والثواب).. (اتصالكم كان يكفي طال عمرك).. أبوحسين من بين الحضور.. مصافحة باردة (الواجب واجب يا أبوحسين).. (الحمد لله يعرفني).. قالها أبوحسين في نفسه.. (تفضل تقهو طال عمرك) مهراس القهوجي يشق الصفوف بفنجان القهوة.. يرشف نفساً من القهوة ولم يذق طعمها يدلق الباقي على الأرض.. (أفا) قالها مهراس بصوت خافت يتبعه شهيق وزفرة طويلة.. لكزه أبوحسين على جانبه الأيمن فوق الفتاق القديم بأصابع.. غادر أبومحمود ومهراس يتلوى من شدة الألم (الله لا يقيمك بغيت تفضحنا) أبوحسين لمهراس. (خير يا أبومحمد ما كنك توخرت علينا اليوم).. أم محمود وقد تكور وجهها من كثرة النوم.. أقول اغسلي وجه «تش» أول ثم تعالي واعلم «تش».. (الله يهديك يا أبومحمود لازم التشتشه ذي) أم محمود في طريقها إلى دورة المياه.. (لو غسلت وجهها في الصين كان مداها رجعت.. وين «تش» يا مره).. تخرج أم محمود بوجه جامد كقالب صابون من كثرة الخمائر والأصباغ.. (قل وش عندك؟).. (اليوم رحت الحارة الوسطية).. (حارتنا من أول؟).. (إيه حارتنا من أول).. (طيب).. (عزيت في الشيخ المبارك).. (هب ياذا الشويب توه مات.. خابرتنه مريض يوم خلينا الحارة.. يعني من زود وقتك يا أبومحمود الله يهداك).. (أقول ما كن «تش» نجدية ذا اليومين.. وألا قعدة البريداوية مؤثرة علي «تش»).. (وشبك حمقت عليه؟ ترى والله إن أروح بيت أخويه).. (والله ما يستلفي «تش» مسفر بن صبحة لو تحبين السماء.. غير قري وهرجي مثلنا). في عمارة أبومحمود.. الطابق السابع على وجه التحديد.. جلس أبومحمود إلى ولده محمود.. سأله ما قيمة الاستقرار يا محمود.. رد محمود بكل استهتار (راسها مره والسلام).. ضحك أبومحمود.. (وش رأيك في مره ومرزق).. محمود (طيب على طيب.. لكن تخليني على كيفي.. لا كيني ولا ميني).. دنا أبومحمود من ابنه.. ليلقنه درساً آخر في الثراء من جبين الضعفاء.. أخبره أن هيا ورثت للحظة من أبيها داراً في وسط الحارة القديمة.. وهذه الدار محطة مشروع العمر، على حد زعمه.. قَبِل محمود العرض بشرط (النصيفة).. تصافح الرجلان على الاتفاقية ولتكون هيا آخر ضحية.