تحولت حلقة تليفزيونية عادية في تونس إلى قضية شغلت الرأي العام لمدة لا تقل عن 24 ساعة، فما أن أعلن معد برنامج التاسعة مساء لقناة «التونسية» الخاصة عن بث حوار مع أحد أصهار الرئيس السابق زين العابدين بن علي من زوجته الأولى، حتى بادرت النيابة العمومية بمنع البث على إثر قضية تقدم بها أحد المحامين، وبسبب ذلك اندلع جدل في البلاد حول خفايا هذا المنع ومدى مشروعيته. يقول الذين دافعوا عن قرار حجب الحلقة: كيف يتم السماح بعد الثورة لرموز العهد البائد باستغلال وسائل الإعلام والتسلل مرة أخرى إلى بيوت التونسيين لتبييض جرائمهم، ومغالطة الرأي العام من جديد، وعدوا ذلك دعماً مقصوداً أو غير مقصود لما أصبح يسمى في تونس بالثورة المضادة. كما تبين أن أحد الوزراء هو الذي تدخل وقام بتحريض أحد المحامين لتقديم قضية استعجالية لمنع البث. وذكرت مصادر إعلامية أن الوزير المقصود هو وزير أملاك الدولة تقدّم بشكاية جزائية لدى وكالة الجمهورية بالمحكمة الابتدائية في تونس ضد صهر الرئيس السابق سليم شيبوب «المحال بحالة فرار وطالب بفتح بحث تحقيقي ضده من أجل التآمر على أمن الدولة وتعكير صفو النظام العام». وعد الوزير أن بثّ تلك الحلقة من شأنه «أن يبثّ الفوضى والفتنة داخل المجتمع باعتبار أن سليم شيبوب من أبرز الوجوه المطلوبة للمحاسبة». أما السيد رئيس الحكومة حمادي الجبالي فقد برر القرار بقوله إن ذلك من شأنه «أن يمثل محاولة للدفع إلى التطبيع الممنهج مع النظام السابق»، وأضاف من موقعه كمسؤول وكأمين عام لحركة النهضة «لن نقبل بهذه الخطة الجهنمية، وقناة التونسية هى قانوناً ملك للشعب التونسى». كما دافعت عن القرار صحيفة يومية معروفة بمعارضتها الشديدة لسياسات الائتلاف الحاكم، حيث أشادت (المغرب) في زاوية تحت عنوان «سليم شيبوب لن يمر» بقرار القضاء منع بث الحوار الذي أجرته قناة «التونسية»، وعدته «قراراً صائباً» بحجة أنه «يقطع الطريق مع رموز الاستبداد». في مقابل ذلك، رفضت أوساط إعلامية وسياسية هذا القرار، وعدته مساً خطيراً من حرية الصحافة والتعبير. وكرد فعل على ذلك قررت قناة «الحوار»، وهي أيضا قناة خاصة، تحدي وزير العدل، قائلة في موقعها على الإنترنت بأنها «لا تعترف بقرارات قضاء يتحكم فيه وزير العدل نور الدين البحيري كما كان يتحكم فيه بن علي، وأنها «لا تعترف بقيود على حرية التعبير التي حققها لنا شبابنا في غياب البحيري وحزبه». وذكر مديرها، وهو معارض لحركة النهضة، بأن قناته ستتحمل مسؤوليتها القانونية، وستقوم ببث الحلقة الممنوعة، بحجة تجنيب البلاد «كارثة إعلامية» على حد تعبيره. وقد كاد أن يفعل ذلك لولا صدور حكم قضائي ببطلان قرار المنع. ويلتقي ذلك مع موقف النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين عن «رفضها المبدئي لكل المحاولات الرامية الى الهيمنة على قطاع الإعلام، والسعي الى إخضاعه لأي طرف سياسي أو حزبي»، مؤكدة على «تمسكها بحرية التعبير والصحافة والإبداع كمكسب أساسي من مكاسب الثورة». تكمن أهمية هذه الحادثة في كونها تؤشر على حالة الارتباك التي لا تزال تعاني منها النخب في تونس لتحديد موقفها من رموز العهد السابق. فهؤلاء -رغم خروجهم من دوائر القرار وانهيار سلطتهم مع رحيل بن علي- إلا أنهم لايزالون يحدثون صداعاً مؤلماً للطبقة الحاكمة الجديدة التي وفرت لها الثورة فرصة الصعود إلى دفة الحكم. فهؤلاء متهمون بكونهم وراء كل الاضطرابات ومظاهر العنف التي توالت منذ أن دخلت البلاد مرحلة الانتقال السياسي. وقد ازدادت حدة الانزعاج بعد أن أقدم الوزير الأول السابق الباجي قايد السبسي على تأسيس حزب معارض هو حزب «نداء تونس»، الذي سرعان ما سطع نجمه، وأصبح في فترة وجيزة يحتل في عمليات سبر الآراء المرتبة الثانية بعد حركة النهضة. ونظراً لكون رئيس هذا الحزب يعد من التلاميذ الأوفياء للزعيم الحبيب بورقيبة، وسبق أن تحمل في عهده مسؤوليات عديدة، كما كان في أول عهد الرئيس بن علي وزيراً للخارجية، فقد تم اتهام حزبه بكونه مرشحاً ليصبح بمثابة حصان طروادة يعود من خلاله رجال العهد البائد للانقضاض مجدداً على مؤسسات الدولة. ولهذا السبب قامت حركة النهضة بالتنسيق مع خمس كتل في المجلس التأسيسي بتقديم مشروع قانون سمي بقانون «تحصين الثورة»، ويهدف إلى حرمان «كل من تحمّل مسؤولية مركزية في منظومة النظام المنحلّ في الفترة الممتدة من إبريل 1989 إلى 14 يناير 2011 من وزراء ونواّب ومديرين وولاة وأعضاء لجان مركزية ويمنعهم من الترشّح أو التعيين في مناصب الدولة الأساسية». وسيضاف إليهم كل من «ناشد» الرئيس المخلوع البقاء في الحكم إلى ما بعد سنة 2014». هذا المشروع انتقدته منظمات حقوقية عديدة من بينها منظمة «هيومن رايت ووتش» التي عدته «خرقاً للمعايير الدولية» لأنه سوف «يحرم آلاف الأشخاص من أحد حقوقهم الأساسية». لست من الذين يقللون من أهمية القوى المضادة للثورات، والتي عملت في كل التجارب السابقة على إفشال الانتقال الديمقراطي بوسائل متعددة، بما في ذلك التآمر واستعمال العنف أحياناً. لكن هناك خطأين يجب تجنبهما في هذا السياق. – يتمثل الخطأ الأول في تضخيم خطر هؤلاء، انطلاقاً من فرضيات غير مدعومة بأدلة ووقائع ثابتة. فلا يجوز بناء المواقف ووضع التشريعات بناء على أقوال وسيناريوهات وشائعات غير موثقة بوقائع وأسماء يمكن إحالتها على القضاء لقول كلمته في شأنها. إذ يجري الحديث منذ قرابة السنتين عن عمليات تخريب واسعة ومؤامرات تحاك هنا وهناك تقف وراءها أطراف منسوبة للحزب الحاكم السابق، لكن الحكومات الثلاث المتعاقبة بعد الثورة لم تقدم حتى الآن قائمة في أشخاص يمكن إدانتهم. من المؤكد أن هناك من ليس من مصلحته نجاح عملية الانتقال نحو بناء نظام ديمقراطي، لكن ذلك لا يمكن اتخاذه مبرراً للجوء إلى أشكال من العقاب الجماعي تكون أشبه بما حدث في العراق مع سياسة اجتثاث حزب البعث. لأن مثل هذا الاختيار يمكن أن يحدث ثغرة في المجتمع، ويحول جلادي المرحلة السابقة إلى ضحايا تدافع عنهم منظمات حقوق الإنسان. – أما الخطأ الثاني الذي يمكن الوقوع فيه، فيخص التوسع في انتهاك حقوق الإنسان بشكل استثنائي بحجة تحصين الثورة. لأن هذا المنطق سبق أن استندت عليه تجارب أخرى مرت بحالات ثورية، فأدى في النهاية إلى اعتماد مبدأ الغاية تبرر الوسيلة. في حين أن مرحلة التأسيس يجب أن يقع حمايتها من أي منزلق في هذا الاتجاه، لأن ما يقام على باطل يكون باطلاً مهما كانت النوايا حسنة والمبررات الواقعية قائمة.