يتحدث كثير من المفكرين عن أسباب السقوط الحضاري العربي في سياق بعدين أساسيين تعزى إليهما جل الآراء وهما جانبا «التغريب والاستلاب» ولكن السؤال يبقى قائماً: هل الاستلاب والتغريب سبب أم نتيجة فاصلة لجملة من الأسباب والمحركات؟ عندما أنظر شخصياً إلى المسألة أرى أنها مشكل «فكري أخلاقي» بالدرجة الأولى، تنم عن هشاشة النظام الفكري والأخلاقي التي ارتكز عليها البناء الحضاري أو تضاعفه التاريخي ووصوله إلى حالة الكمون التدريجي ثم الانحسار خلف الموجات الإمبريالية المتعاظمة، ومن ثم فإن «الاستلاب والتغريب» الذي نناقشه إنما هو نتيجة حتمية وليس سبباً قائماً في كيان السقوط الحضاري، فالأصل بالتفكيك إنما في المنظومة الفكرية «التي تجسد معالم الوعي والمرونة الثقافية والقدرة على الاقتباس الحضاري الفعّال وتعزيز السلطات الثقافية بما يخدم رقي المجتمع ومن ثم إيجاد حريات التفكير قبل حريات التعبير» وفي الجانب الآخر في المنظومة الأخلاقية «التي تركز على الجانب القيمي والتوجيه الأخلاقي وبناء وتفعيل دور الأخلاق الحضارية في مختلف الأنساق والعمليات الاجتماعية والتوجيه الأمثل للقيم بما لا يشكل قاعدة جمودية ثابتة يقاس عليها كل مغزى أو معنى في السياق الحضاري، وإنما بلورة تلك القيم بما يخدم معززات النهوض والنماء الاجتماعي» ولعلي أجمل سلسلة الأبعاد التي أفرزت الاستلاب والتغريب في إطار النقاط التالية: الجمود الفكري في أوساط المثقفين والمفكرين والأدباء وسطوة تغليب الإيديولوجيات الزائفة على حساب الفكر الموضوعي الذي يناقش واقع الحضارة ويبحث عن دوافع إحيائها وإعادة النبض لها من جديد. الجمود العلمي الذي ارتكز على سياسات وفكر استيراد المعرفة والانجرار وراء التعلق بالركام المعرفي دون أدنى محاولة لتنظيم جهد واستراتيجية فعلية للمشاركة في بناء المعرفة وإنتاجها وكذلك جمود مجالات البحث العلمي واعتباره نوعاً من الترف العلمي أو ارتباطه بالحصول على مكانة علمية – اجتماعية معينة فحسب. انتشار الأمية ولعلني لا أرى أن مناقشة هذه المسألة هي المسائل المنطقية لأن الأمية ظاهرة حتمية في شتى المجتمعات والحضارات ومقاييسها ومعايير قياسها ومناقشتها تختلف من مجتمع إلى آخر ولكنني أرى أن المشكل الحقيقي إنما يكمن في الآليات التي باتت تعالج من خلالها هذه المشكلة والفكر الجمودي التقليدي الذي يركز على تعميم التعليم دون بناء أي اعتبار للجودة ودون تجسيد لعوامل الثقافة الاجتماعية والمتغيرات الاجتماعية عموما في مسألة التغلب على المشكلة ومواجهتها. عدم التأسيس الحقيقي لنظرية فكر سياسية تتضمن جوانب «العدالة والمساواة والحرية» ومن هنا تخلف الفكر السياسي وانطلق إلى تدعيم المصالح النفوذية لأفراد السلطة دون ثقافة اجتماعية رادعة وإنما ثقافة اجتماعية تعيش على عماء التقديس والانجرار والتكرار الزائف ومن هنا فتح المجال للممارسات السياسية المستبدة التي أخلّت بالبناء الاجتماعي بشتى أنساقه ونظمه وجعلت منها تابعاً أسيراً لمصالحها ورؤاها.