لنتفق أولاً أن معاناتنا الحقيقية (هنا) تتمثل في (المنتج) الإنساني، فمنتجنا يفتقر (بفعل فاعل) إلى معطيات العلم والثقافة والجودة، فعشرات الطالبات والطلاب من مختلف مدارسنا لا يفقه أغلبهم الفرق بين ال(ظ) وال(ض) كتابة ونطقاً، ناهيك عن فن الحوار وفقدان الطموح، وجامعاتنا رغم لهاثها خلف التصنيفات العالمية أخرجت أجيالاً لا تستطيع كتابة سطر واحد دون أخطاء إملائية، أجيالاً لا تبحث إلا عن وظائف تقليدية مريحة، ومن يتسنى له العمل لا ينظر من مكانه (الحكومي) إلا أنه واهب نعمة وفضل لمن (يخدمهم). تلك الأجيال لا يمكن وصفها إلا بأنها أجيال مظلومة بسبب افتقار خطط التنمية لبناء الإنسان الحقيقي. إننا نعاني مثل كثير من دول العالم الثالث (رغم إمكاناتنا المالية) من إشكاليات في مجال التخطيط وعدم الاستعداد لمواجهة التحديات والمخاطر المستقبلية من خلال تنمية الموارد البشرية. إن الإدراك بأهمية الاستثمار في (العنصر البشري) أو ما نطلق عليه اصطلاحاً تنمية الموارد البشرية دليل على أن الدولة تحافظ على قوتها وقدرتها على الوجود والرقي وذكائها في البقاء، من خلال اعترافها بأهمية العنصر البشري ودوره في الإبداع والابتكار والتطور ورفع مستوى الكفاءة الإنتاجية، وتوفير المهارات والقدرات التي تلبي حاجة الوطن من العنصر البشري الملتزم بالقيم الوطنية ومعايير الجودة. إننا الآن بحاجة إلى وزارة لتنمية الموارد البشرية لتصحح أخطاء سوء التخطيط لتعمل على تجميع كل الجهود في مجال تنمية الموارد البشرية وتشكيل نقطة الارتكاز الأساسية لعمل التنمية البشرية في كل القطاعات الحكومية. إنشاء مثل هذه الوزارة وتفعيلها التفعيل الأمثل سيسهم في تزويد الوطن بالكفاءات المدربة القادرة على سد النقص وعشوائية التعامل في كل الميادين (بعيداً عن الارتجال الحالي لصندوق الموارد البشرية ومجالس التدريب) فالجودة في الأداء ركيزة أساسية في التنمية البشرية، والتأسيس لتلك الثقافة لابد أن يقع في صلب أولوياتها، فبسط سيطرة وهيبة أي دولة لم يعد يرتكز على ما تحوز عليه من آليات قديمة، وإنما من خلال حالة التميز في تقديم الخدمة، لا باعتبارها منة أو منحة، وإنما باعتبارها حقاً مكفولاً للمواطن الذي تتوقع منه الدولة بدورها أن يكون مصدر ثروتها الحقيقي. إن من الأولويات التي يجب أن تقوم عليها هذه الوزارة (إن كتب الله لها النور) لتجاوز أزمتنا البشرية الحالية، إعداد السياسات العامة والخطط الكفيلة بالارتقاء بمستوى الموارد البشرية بالدولة، وأن يتم ذلك بوضع النظم الحديثة للتدريب الإداري، وتفعيل التدريب المستمر وربطه بالاحتياجات، إضافة إلى صياغة السياسات العامة والخطط الكفيلة بتطوير أداء الخدمات الحكومية وتبسيط إجراءات الحصول عليها في أقرب وقت وبأقل تكلفة، مع التركيز على بناء الصف الأول والثاني، والتنسيق مع وزارة التخطيط (التي لا نسمع بها إلا عند إعلان الميزانيات العامة للدولة والتعداد السكاني) لإدارة وإعداد خطط وبرامج الإصلاح والتطوير الإدارى وإخضاع من يتم توظيفهم في القطاعات المختلفة لآليات التدريب والتأهيل، ذلك سيتحتم على وزير العمل أن يتنازل عن بعض صلاحياته كونه رئيساً لصندوق الموارد البشرية ومؤسسة التدريب المهني لتكون هاتان المؤسستان تحت سيطرة هذه الوزارة حال إنشائها لعلها تحيد بهما عن الروتين الذي يعصف بأنظمتها ولوائحها، إضافة إلى إنشائها للمجالس المهنية. إن وزارة التنمية البشرية منوط بها إحداث تغيير في مفهوم العنصر البشري حتى يواكب تطورات التنمية الاقتصادية، فالدول التي وصلت إلى (النضج) الإداري ما كان لها أن تصل إلى ذلك لولا اتباعها الأساليب الحديثة في مجال التنمية البشرية وصياغة إستراتيجية وطنية طويلة المدى تمكّن التنمية الشاملة والمستدامة في المجالات البشرية ليكون الإنسان وسيلة وغاية للتنمية. لابد للتخطيط الفعال للموارد البشرية أن ينطوي على تنمية المهارات في الأجل الطويل كمدخل للاستخدام الأمثل، وهذا يعني وجود إستراتيجية متعلقة بالموارد البشرية، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال منظمة مستقلة لرسم السياسات وتنفيذها ومتابعتها، فلعلنا نجد ضالتنا في هذه الوزارة حتى نتمكن من خلق جيل جديد من القيادات الحكومية الواعية بمفاهيم الخدمة العامة القادرة على قيادة الجهاز الإداري للدولة بكفاءة، من خلال إعداد برنامج متكامل للانتقاء والتدريب والارتقاء بمهارات وكفاءة العاملين، وببيئة العمل ومستوى أداء الخدمة والتعامل مع الجمهور داخل الجهات الحكومية.