رضا الناس غاية لا تدرك، مقولةٌ حَقَّقها الواقعُ مشاهدة وتطبيقاً، فالفردُ تحرِّكه في التفاعل مع مجتمعه مبادئه وقيمه وقناعاته وآراؤه المحقَّقة والممحَّصة فكراً وعلماً في ضوء الثوابت الدينيَّة والوطنيَّة، وبتأثير وعيه بالحدود فيما بين المصلحة الوطنيَّة ومصالحه الشخصيَّة، وتماسها مع مصالح الآخرين، وسيجدُ مختلفين معه في ذلك كلِّه أو بعضه لأسبابٍ ودوافع عديدة، منها ما يستحقُّ منه النظرُ فيها، ويتطلَّب منه حواراً معهم، ومنها ما ينكشف المختلفون معه بدوافعهم وأسبابهم، فينصرف عنهم أو يكشفهم للمجتمع دون الدخول في مجادلات معهم، وهنا سينقسم النَّاس تجاه الفرد من حيث الرضا عليه وعلى تلك المحرِّكات لعقله وفكره وأخلاقه وتعامله وتصرُّفاته، ورضا الآخرين مطلبٌ تحفزه عليه رغبته بالتوافق معهم لإعادة نظره في ذلك أو للحوار فيه تبياناً وإيضاحاً، ولكن رغبة الفرد بالتوافق مع الناس لاكتساب رضاهم ينبغي أن تسيِّرها إليه رغبتُه برضا الخالق أولاً، وبالرضا عن نفسه ثانياً، وألاَّ يكون رضا الناس مؤثِّراً سلبياً عليهما. سأستضيء في مقالتي هذه بعنوانها أعلاه بقصَّة حكيم أراد البرهنةَ لابنه بأنَّ رضا الناس غاية لا تدرك، فركب الحمار وحده فاستنكر عليه قوم واتَّهموه بالقسوة، فأركب ابنه وحده فاستنكر آخرون واتَّهموا الابن بعدم البر بوالده، وركبا معاً فاستنكر عليهما آخرون واتَّهموهما بعدم الرفق بالحيوان، فأخليا ظهر الحمار ومشيا فاستنكر آخرون فعلهما واتَّهموهما بالحمق، إذاً لم يدركا رضا كلِّ الناس، فهل من حالة يمكن أن تحقِّق الرضا كاملاً؟، أؤجل طرحها فلربَّما استنتجها القرَّاء قبل ذلك. بعد الاستضاءة بقصَّة الحكيم فلْيُسْتَقْرَأْ الواقعُ، حيث سيتبيَّن المستقرئ عدم رضا معظم الأبناء والطلاَّب عن مربِّيهم وعن معلِّميهم المتَّصفين بالحزم والجديَّة أثناء العمليَّة التربويَّة والتعليميَّة، وأنَّ ذلك يتغيَّر إلى الرضا فالتقدير والاحترام بعد انخراطهم بالعمل وبشؤون الحياة، فيما يرضى أولئك مؤقَّتاً عن مربيهم ومعلميهم المتساهلين وإن خسروا التربية والتعليم آنذاك، ليسخطوا عليهم لاحقاً حينما يتبيَّنون خسارتهم التربويَّة والتعليميَّة بعد انخراطهم بالعمل وبشؤون الحياة. كما سيتبيَّن المستقرئ لواقعنا أنَّ المسؤولين عن الخدمات الحكوميَّة من ذوي النزاهة والعدالة الملتزمين بالأنظمة سيلاقون سخط كثيرين من النَّاس من ذوي المصالح الشخصيَّة المتعارضة مع ذلك، وسيحظون برضا آخرين تعنيهم المصلحة الوطنيَّة أولاً، فيما سيرضى أولئك الساخطون عن مسؤولين يحقِّقون لهم مطالبهم ومصالحهم الشخصيَّة، وسيلاقي أولئك عدم رضا آخرين يقدِّمون المصلحة الوطنيَّة على المصالح الشخصيَّة ويقفون في مواجهة فسادهم. كما أنَّ متابعي تعليقات القرَّاء على مقالات الرأي في الصحف سيرون بعضها تعكس رضا المتوافقين معها ومع كتَّابها أفكاراً وآراءً، فيما يعكس بعض آخر عدم الرضا حيال تلك وأولئك، فالتعليقات على: مقالة «زعيق الثامنة» للدكتور سعود كاتب، ومقالة «رحيق الثامنة» للأستاذ عبدالحميد العمري المنشورتين في صحيفة الشرق على التوالي في عدديها 314، 316 مثال لذلك: فالمقالة الأولى غير راضية عن البرنامج وعن مقدِّمه الأستاذ داوود الشريان، فيما الثانية راضية عنهما، وفي تعليقات القرَّاء عليهما الرضا وعدمه، كذلك مقالتي في العدد 301 من صحيفة الشرق «قفزة تنمويَّة حضاريَّة لخدماتنا الصحيَّة فأين الرضا والفخر؟!»، كشفت معظم التعليقات عليها عدم رضا يؤكِّد أنَّ النقد السلبي لوزارة الصحَّة يخفي منجزاتها، وبالنظر لما ينشر من مقالات الرأي، حيث تحمل آراءً وأفكاراً محَّصها أصحابها، وكيف تأتي أحكام قرَّاءٍ بتعليقات آنيَّة، بالرضا ومردُّه لمجاملات بينهم وبين كتَّابها المحفِّزين لهم بالرغم من فهم قاصر، وركاكة أسلوب، وأخطاء لغويَّة في معظم تلك التعليقات، وبعدم الرضا، ومردُّه لمواقف شخصيَّة بين أولئك وأولئك أكثر من كونه تعبيراً فكريّاً حرّاً وموضوعيّاً، فمعظمها ردود أفعال بنيت على تصحيح الكتَّاب لفهمٍ أو على تنبيهٍ لأخطاء فكريَّة وأسلوبيَّة، فهل تلك التعليقات ممَّا ينبغي أخذها بالاعتبار لرفع نسبة الرضا بالمجاملات؟!، وهل إهمال الرد عليها ابتعاداً عن الجدل أو المجاملة يعاب على الكاتب فيوصف بعدم اهتمامه بتعليقات القرَّاء تعالياً، وعموماً فهؤلاء معلِّقون لا يشكِّلون نسبة تذكر من القرَّاء، فكيف يدَّعون فوق ذلك أنَّهم يرتقون بالصحيفة وبالكاتب؟!. فمن قصَّة الحكيم ومن إشاراتي السابقة يظهر أنَّ انقسام الناس بين الرضا وعدمه تجاه الفرد في فكره وتصرُّفاته أمر وارد، بل إنَّ الرضا يكون دائماً أقل من عدمه، فهل على الكاتب ليُرضي أكبر نسبة من الناس مجاملتهم على حساب المستقرِّ لديه رأي وفكر وثوابت دينيَّة ووطنيَّة، أو على حساب مبادئه وقيمه وقناعاته المحقَّقة والممحَّصة التي قد تكون نتائج دراسات علميَّة أو تجارب عمليَّة، أو أن يخرج من ذلك بالادِّعاء بتركهم للمختصِّين، أعلم أنَّ هناك متلوِّنين ليكتسبوا رضا الناس، وأعلم أنَّ ما يرضي فئة قد لا يرضي أخرى، فهل يمتلك المتلوِّنون ألواناً يكتسبون بها رضا الجميع؟!، هيهات فأوَّل ما سيخسرونه هو عدم الرضا عن أنفسهم وإن لم يصرِّحوا بذلك، وعدم رضا شريحة كبيرة من الناس عنهم وإن لم يعلنوا ذلك لهم، فالمجاملاتُ على حساب الحقِّ والحقيقة والرياءُ والنفاقُ أخلاقٌ لمن تجاوز رضاه عن نفسه لاكتساب رضا الآخرين، فليتنبَّه أولئك إلى أنَّ رضا الناس غاية لا تدرك، وأنه سيظل هناك كاره وحاسد ومتجاهل وغير فاهم؛ لأسباب قد تكون وجيهةً وقد لا تكون، وهنا تأتي الحالة الخامسة في قصَّة الحكيم التي ستحقِّق الرضا كاملاً لو جُرِّبت، فلو أنَّه وابنَه حملا الحمارَ لوجدا كلَّ الرضا من كلَّ الحمير، إذاً على الفرد أن يتمسَّك بمبادئه وقيمه الراقية وقناعاته الصافية وأخلاقه العالية في طرحه وحواره مع الآخرين، وأن يترفَّع عن سفاسف الأمور والمجادلات، وأن يوطِّن نفسه على أنه سيوجد في كل مكان وزمان مَن لا تعجبه بعض آرائه وأفكاره وتصرفاته، وليردِّد حينها بيت شعر للإمام الشافعي يقول: وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عيبٍ كَلِيْلَةٌ ٌوَلَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي المَسَاوِيَا