يجدر بنا أن نذكر هنا أن صفات اليمين (Right) واليسار (Left) والوسط (Moderate) إلخ، التي تطلق اليوم على الأيديولوجيات السياسية، ويوصف بها أنصارها، تعود تاريخياً إلى القرن الثامن عشر. وتعد هذه الصفات الآن المعيار الرئيس الذي يعتمده المعنيون لتصنيف الأيديولوجيات والتيارات السياسية المختلفة. وقد برزت هذه الصفات، وبدأ في استخدامها، بعد قيام الثورة الفرنسية وتأسيس الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان الفرنسي). ففي صيف عام 1789م، اجتمعت تلك الجمعية في قاعة بها مقاعد على هيئة حدوة الحصان، وفي وسطها جلس المتحدث باسم تلك الجمعية. وعلى يمينه (اليمين) جلس «المحافظون»، الذين كانوا ينادون باستمرار الملكية في فرنسا، بقليل من التعديل. أما على يسار المتحدث (اليسار) فقد جلس «المتطرفون» (اليساريون) الذين كانوا يطالبون بتغيير الوضع القائم في فرنسا عشية الثورة الفرنسية، وإقامة نظام جمهوري وديمقراطي، وضمان الحريات العامة. وبين المحافظين والتقدميين (اليساريين) جلس «المتحررون» (الوسط ). وكانوا ينادون بإدخال تعديلات عدة على الوضع القائم. ومنذ ذلك الحدث، أخذت هذه الألفاظ وما تفرع منها (ك «اليمين المتطرف» .. إلخ ) تستعمل في وصف وتصنيف الأيديولوجيات السياسية. فيقال إن هذه الأيديولوجية «يسارية»، إذا كان أنصارها ينادون بإحداث تغيير جذري في الوضع القائم. وتوصف الأيديولوجية بأنها يمينية إذا كانت محافظة، بينما توصف الأيديولوجيات والتيارات ذات الأهداف المعتدلة ب «الوسط». وقد أخذ علماء السياسة بمبدأ وصفتي (اليمين – اليسار) عند محاولتهم تحديد أهم الأيديولوجيات السياسية المعاصرة بإيجاز. فبناء على اتجاه كل أيديولوجية، قسموا الأيديولوجيات الحالية كالتالي: أ – اليسار: وفي أقصاه، توجد «الفوضوية»، تليها «الشيوعية»، ثم الاشتراكية. ب-الوسط: ويشمل: «التحررية (Liberalism)» و»المحافظة» (Conservatism). ج – اليمين: وتوجد «الرجعية الثورية» (كالفاشية، والعنصرية (في أقصاه، ثم الرجعية. (Reactionalism) إن التيارات السياسية كلما اقتربت من منطقة الوسط (الاعتدال) وبعدت عن نقطة أقصى اليمين، ونقطة أقصى اليسار، كلما كانت أكثر منطقية وقبولاً وفعالية وتأثيراً، والعكس صحيح. أي كلما ًاقتربت التيارات والتوجهات السياسية من نقطتي أقصى اليمين (التشدد) وأقصى اليسار (التسيب) كلما كانت تلك التيارات أقل منطقية، وأقل قبولاً (لدى الناس) وأقل فعالية وتأثيراً، وأكثر رفضاً وانعزالاً. إن توجه الاعتدال السياسي يمكن -بناء على تعريف الاعتدال، بصفة عامة- أن نعرفه بأنه: التوجه السياسي الساعي للمواءمة بين التمسك بأهم القيم النبيلة السائدة في مجتمعه والعالم، والاستفادة من معطيات حركة التحديث العالمية المتواصلة، في شتى المجالات. وهو سلوك يعترف بالآخر وبخياراته، في ذات الوقت الذي يتمسك فيه بهويته وقيمه المقبولة. وعندما نأخذ بهذا التعريف (الإجرائي) ل «الاعتدال السياسي»، نجد أن هذا النوع من الاعتدال يعني: عدم رفض عمليات التحديث في شتى المجالات، والتي لا تتعارض مع القيم النبيلة السائدة بالمجتمع، والاعتراف بالآخر (المختلف) واحترام خياراته .إنه موقف وسط (وعقلاني) بين أقصى اليمين المتشدد وأقصى اليسار المتسيب. وهو يعني: العمل على ما فيه خير وصلاح الأمة، وبما لا يتعارض مع عقيدتها وقيمها، والأخذ بكل وسائل التقدم والتطور، والتعايش مع الآخر (المختلف) واحترام خياراته، بل والتعاون معه عند الاقتضاء، بما يخدم الأمة والإنسانية جمعاء. ولا يعنى الاعتدال السياسي السليم إطلاقاً: التواطؤ مع العدو، والتفريط في الحقوق الوطنية والقومية. ونتيجة لطبيعة الاعتدال السياسي، وتميزه على التوجهات غير المعتدلة، أصبح الاعتدال، في المجال السياسي، هو السائد. وما عداه هو الاستثنائي العابر. فالناس تميل لانتخاب المعتدلين.. وهذا ما يمكن تبينه من الخط المستقيم الموضح لأهم الإيديولوجيات السائدة الآن، والذي يقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسة، تمثل هذه التيارات الثلاثة.. ويأتي هذا التفضيل الشعبي نتيجة فشل غير المعتدلين -النسبي- في تحقيق الأهداف الوطنية والقومية. كما ثبت أن الاعتدال السياسي يدعم التعاون فيما بين الدول، ويقلص من احتمالات الصراع.. الأمر الذي يسهم -إيجابا- في دعم الأمن والسلم الدوليين. وعندما ننظر إلى العلاقات الإقليمية والدولية الراهنة، بل والمستقبلية، نجد أن الاعتدال السياسي السليم أصبح ضرورة ومصلحة، بالنسبة للأمتين العربية والإسلامية، وأصبح «اللاعتدال» عبئاً ثقيلاً على هذه الأمة، وعقبة كأداء في سبيل تقدمها واندماجها في العالم. وذلك على النحو الذي سوف نلخصه في المقال القادم.