اليمين واليسار من مصطلحات الأيديولوجية والسياسة في القرون والعقود الحديثة، منذ قيام الثورة الفرنسية وغيرها من الثورات الأيديولوجية والسياسية في العالم أجمع، وهذا التصنيف الأيديولوجي والسياسي تعاملت معه الدول الغربية كافة على أنه واقعٌ ثقافي وحضاري وعقلاني وديموقراطي، أي تعامل معه الغرب على أنه واقع لا يمكن رفضه ولا نفيه في الفلسفة الأوروبية الحديثة التي تقوم على العقلانية والعلمانية والليبرالية والاشتراكية العلمية، التي لا تنفي الآخر مهما كان فكره وسياسته، من دون أن يؤثر ذلك على ضعف الدول الأوروبية والأميركية، ولا قيام حروب أهلية في بلدانها، ولا عدم استقرار ثقافي أو اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي، بل تم استثماره ليكون عامل قوة للدولة كلها، وتم تناوب السلطة السياسية في تلك الدول على أساس الانتخابات البلدية والبرلمانية والرئاسية، حتى في الدول الملكية مثل المملكة المتحدة، وعلى أساس أن للدولة هوية واستراتيجية عامة يتفق عليها غالبية مواطني تلك الدولة، فقد حكمت في بريطانيا الأحزاب اليسارية والعمالية والأحزاب المحافظة والدينية، وكذلك في فرنسا وأغلب الدول الأوروبية، وانتقلت السلطة السياسية بالطرق الديموقراطية السلمية، ولم يكن انتقال السلطة السياسية من الأحزاب اليمينية إلى الأحزاب اليسارية سبباً لانهيار الدول إطلاقاً، بل كان الانتقال السلمي الديموقراطي للسلطة عامل قوة للدولة، وفرصة حقيقية لتغيير البرامج والمشاريع التي لم تحقق مصالح الناس ولم توفر مكاسب للدولة ولا لأحزابها، واستعمل انتقال السلطة من طرف الى آخر داخل الدولة نفسها وسيلة لتغير سياسة الدولة كلما رأت أن من مصلحتها تغيير سياستها الداخلية أو الخارجية. وبذلك وضعت الدول المتحضرة لنفسها منهجاًَ للنجاح، ومنهج إبعاد للضعف، ومنهجاً لاستمرار الحزب القوي وإزاحة للحزب الضعيف، من دون أن تجعل من حزب معيّن وصياً على مصالح الدولة والشعب، ومن دون أن تجعل من أشخاص معينين أمناء خالدين على مصائر الشعب وممتلكاته، ولا أبطال عظماء لا ينبغي انتخاب غيرهم وإلا خدشت عظمتهم، بل كان انتخاب غيرهم رفعةً لهم وسمواً في مكانتهم أمام شعوبهم وغيرها، وبالأخص بعد تحقيقهم للنّجاح العسكري أو الاقتصادي في عهدهم. هذه القيم أخذت بها كل الدول التي تسعى إلى نهضة حقيقية لشعبها ومؤسساتها ودولتها، وفي التاريخ العربي الحديث كانت الفرصة مواتية للأخذ بهذه المعادلة الأيديولوجية والسياسية، لأن الدول العربية والإسلامية أقامت أنظمة سياسية حديثة بعد أن أقامت قطيعة سياسية مع نظام الخلافة وهياكله التنظيمية وفراماناته السلطانية، ولكن ولأسبابٍ تراثية ومعاصرة لم تأخذ الدول العربية والإسلامية بهذه المعادلة الأيديولوجية والسياسية والديموقراطية في العقود الماضية، سواء في تعاون الأحزاب أو في تناوبها للسلطة السياسية، على رغم وجود أحزاب يمينية محافظة معتدلة وأخرى يسارية اشتراكية واعية، وكلها كانت تهدف إلى نهضة العرب والمسلمين، ولكن الدولة العربية عمدت إلى صبغ الدولة بلون فكري وسياسي واحد ثابت لا يتغير ولا يتبدل إلا بالانقلاب عليه أو الموت، فكان ذلك من أسباب ضعفها المتواصل والمتزايد، بينما كانت تستطيع تغيير لونها الفكري والسياسي من لون إلى آخر ولو بالشكل من دون المضمون، حتى تخرج نفسها من كل أزمة عسكرية أو سياسية أو اقتصادية واجهتها. وعمدت الدول الإسرائيلية والتي نشأت في وقت متزامن تقريباً مع نشوء النظام السياسي العربي الحديث إلى الأخذ بالمعادلة الأيديولوجية والسياسية الديموقراطية، فعند الإعلان عن قيام إسرائيل أعطي دور التأسيس الحكومي إلى حزب العمل اليساري أو غير الديني - ولو بالشكل - في ذلك الوقت، لأن الظروف السياسية العالمية وظروف النشأة في ظل عداء عربي وإسلامي كبير كان يتطلب ذلك بل ويوجبه، ولم يكن في ذلك الوقت ما يسمح بتقديم حكومة إسرائيلية يمينية تتعامل مع العالم الذي كانت تغلب عليه الأنظمة الشيوعية واليسارية والعلمانية الحادة والصلبة، فلما تغيرت الصورة الأيديولوجية والسياسية للعالم، بزوال الدول الشيوعية والاشتراكية الكبرى وتراجعت الأحزاب اليسارية في أوروبا، وتقدمت الأحزاب الأيديولوجية اليمينية والدينية صفوف السلطة السياسية في تلك الدول، كما تجلى ذلك بوصول اليمين المتدين إلى رئاسة أكبر دولة هي الولاياتالمتحدة الأميركية في عهد الرئيسين بوش الأب والابن، انعكس ذلك على الدولة الإسرائيلية، وصعدت إلى سدة الحكم الأحزاب اليمينية المتدينة، من دون أن يكون في ذلك حرج أمام العالم، الذي كان يرى في هذه الدولة دولة عصرية وحداثية وعلمانية وديموقراطية بما لا مثيل له في العالم العربي كله - كما يزعمون -، ولكن ذلك أيضاً لم ينعكس على الدول العربية ولا الإسلامية إلا نادراً، على رغم ما يوفر للدولة العصرية الحديثة من عوامل قوة ونجاح. فدولة إسرائيل مثلاً اتخذت من سلاح اليمين المتدين أكبر قوة في مواجهة أكبر ضغط وقع عليها من الإدارة الأميركية الجديدة في عهد باراك أوباما، الذي أعلن أمام العالم أجمع وأمام المسلمين تحديداً في أكثر من مناسبة، ضرورة تجميد الاستيطان الإسرائيلي كشرط لإنجاح عملية السلام مع العرب والتطبيع الاقتصادي معهم، ولكن الحكومة الإسرائيلية الحالية ترفض مجرد الإعلان الشكلي عن وقف الاستيطان، أي ترفض مجرد إعلانه قولاً من دون أن توقفه فعلاً، كما طلب منها حتى لا تحرج الإدارة الأميركية وموفدها لتجميد الاستيطان، بحجة أنها منتخبة من اليمين المتدين، وهي بتشكيلتها الأيديولوجية والسياسية تعبر عن رأيه وصوته، ويشكل معها ائتلافاً حكومياً يمكن أن ينهار إذا هي خالفت أيديولوجيته اليمينية الدينية التراثية، على رغم وضعه الدولة الإسرائيلية في الحرج الدولي ويحرمها من تسريع التطبيع مع العرب والمسلمين. قوة سلاح اليمين الأيديولوجي والسياسي المتدين أسكتت أوباما حتى الآن، وأسكتت من راهنوا على ضغوط الإدارة الأميركية في مسألة جزئية ثانوية تخص القضية الفلسطينية، لأنه يعبر عن موقف الإستراتيجية العامة للدولة الإسرائيلية، وفي نظرهم أن لا إسرائيل من غير استيطان، وإسرائيل كلها ما هي إلا مستوطنات بعضها معترف بها والآخر وإن لم يعترف به فإنه سيعترف به ولو بعد حين في نظرهم أيضاً، ولذلك سعوا إلى اشتراط يهودية الدولة الإسرائيلية للبدء في عملية السلام، وإذا تم الاعتراف بيهودية الدولة والمستوطنات فلا يبقى للعملية السلمية إلا الاعتراف بأن كل من حارب هذه الدولة في يوم ما كان مخطئاً أولاً، وعليه أن يعوض الدولة اليهودية عما ألحقه بها من ضرر في الحروب السابقة. كل ذلك يعني أن عالم الأفكار والسياسة عالم متغير في العالم المعاصر، ومن عوامل نجاح هذه الدول التخطيط ووضع الاستراتيجيات والتكتيك، من دون أن يغير ذلك من المبادئ الرئيسية لهذه الدولة أو تلك، ومن دون أن تغير من معتقدات هذا الشعب أو ذاك، فإذا لم يحسن العرب والمسلمون استثمار معادلة الإيديولوجية والسياسة في العقود والسنوات الماضية، أيام اليمين واليسار، فإنهم اليوم أمام فرصة ثمينة للاستفادة من هذه المعادلة على صعيد صناعة التيارات اليمينية المتدينة وغيرها، وأن يكون وصولها إلى السلطة السياسية مشروطاً بالانتخابات الديموقراطية، من دون أن تدعي هذه التيارات القداسة لذاتها ولا لأفكارها الاجتهادية، لأنها أفكار دنيوية استنبطها عربي يؤمن بالإسلام ديناً صالحاً لكل زمان ومكان، فلا حرج من استثمار السياسي العربي لمعادلة الأيديولوجية والسياسة في الوصول إلى الأهداف الإستراتيجية للأمة، وإذا ما وصل أحد الأحزاب اليمينية المتدينة العربية أو الإسلامية إلى السلطة يجب أن ينظر إلى ذلك على أنه مرحلة سياسية في إطار مراحل سياسية طويلة، فقد يكون القادم السياسي أكثر انجازاً ونجاحاً، سواء كان يمينياً متديناً أو إسلامياً إصلاحياً أو غيره، وأكثر قدرة على تجميع القوى في أعمال عديدة مشتركة في الهدف وإن اختلفت في الأيديولوجية الاجتهادية وفي شكل النظام السياسي، فالأوصاف الأيديولوجية والسياسية وسيلة وليست غاية. * كاتب وباحث تركي