دعيت إلى ملتقى نادي القصيم الأدبي المنعقد في الفترة 16-17/11/1433ه، للمشاركة بورقة عمل حول تجربتي الشخصية مع التحولات الثقافية التي عاصرتها، لا أريد أن أتحدث عن التنظيم والاستقبال والحفاوة التي قوبلنا بها، فهذا ديدنهم منذ زمن، ولا أضيف جديدا إذا قلت: إن الزملاء في النادي الأدبي كانوا مثالا لكرم الضيافة ودماثة الأخلاق وحسن الاستقبال وروعة التنظيم، وكانت المحاضرات والفعاليات المصاحبة تسير وفق جدولها المرسوم من قبل اللجنة المنظمة التي أظهرت حرصها على راحة ضيوف الملتقى. كانت الجلسة المخصصة لي ولزميلي الأستاذ/ عبد الحليم البراك مساء الأربعاء 17/11 برئاسة الدكتور أحمد الطامي وكيل جامعة القصيم الذي أدار الجلسة بفن واقتدار، وجاءت المداخلات الجميلة إضافات أجمل لورقتي العمل اللتين قدمناهما للجمهور النخبوي الذي حرص على حضور الفعاليات. قبل البدء سألت نفسي سؤالا، ماذا يمكن أن أقدم عن تجربتي الشخصية مع التحولات الثقافية؟ وحاولت أن أجيب على هذا السؤال، فاكتشفت أنني كتبت سيرة ذاتية مصحوبة بأحداث سياسية واجتماعية وأدبية وهي تعبر عن عدد من التحولات الثقافية في مراحل عمري المختلفة، فإذا كانت السياسة هي فن الممكن، فإن الثقافة هي الفن المتمكّن، وعند تعريف الثقافة لابد أن نتذكر التعريف القديم البديهي السهل الذي يقول: إن الثقافة هي أخذ شيء من كل شيء، بهذا التعريف البسيط الذي تعلمته في بدايات حياتي التعليمية، شعرت بأنه يجب أن أعرف الأسس الأولى-على الأقل- في كل العلوم الدينية والأدبية والتربوية والسياسية والاجتماعية والرياضية، وجميع المعارف الإنسانية بما يكفل لي الحديث عنها مستقبلا بمعرفة مسبقة. في بادئ الأمر سيان أن أكون سطحيا أو عميقا، المهم أن يكون عندي جزء من كل فن، ورأيت أن كل ذلك يهون لأحظى بلقب مثقف، وهذا اللقب الكبير عرفت بأن من يحمله يجب أن يساهم في قراءة الواقع الاجتماعي، ويكون فاعلا في تحولاته (الثقافية والسياسية والدينية والأدبية والتربوية والاجتماعية)، كما تعلمت أن الثقافة سلوك، وما لم تكن سلوكا ينطلق من أرضية صلبة ليكون مؤثرا فإن ذلك لا يندرج تحت مسمّى ثقافة، فلنقل عنه أي شيء آخر غير الثقافة. نعرف أن كل مرحلة من مراحل العمر لها تاريخها ولها ثقافتها التي تؤثر فيها، وهذه الثقافات المتعددة والمتحولة من مرحلة عمرية إلى مرحلة أخرى هي التي نسميها التحولات الثقافية عند الفرد، وتأثيرها عليه وتأثره بها وتأثيره على المجتمع إن استطاع، فليس كل مثقف قادرا على التأثير في المجتمع، ما لم تكن ثقافته أصيلة ونابعة من عقيدة راسخة، يؤمن بها وينطلق منها، بخطى ثابتة نحو تحقيق السلوك المرغوب في تحقيقه. كما أن هناك ثقافات مجتمعية لها تأثير كبير على الأفراد، وهذه الثقافات أساسها العادات والتقاليد التي تنشأ عليها المجتمعات، وهي عميقة الجذور، وراسخة جدا في مفاهيم الشعوب، ولا يستطيع الأفراد التغلب عليها أو كسرها بسهولة ويسر، فضلا عن الثقافة المعرفية التي يتعلمها الفرد من خلال دراسته أو اختلاطه بثقافات أخرى، ولكنها ثقافة تعليمية تسير بخطوط موازية للعادات والتقاليد الراسخة في الأذهان. التحولات الثقافية في المجتمعات دائما تتقاطع مع السيطرة السياسية في البلدان، وأحيانا نجد الأخيرة تتغلب على الأولى بالقوة، حفاظا على الخصوصية الثقافية، إنما الانفتاح المعرفي وثورة الاتصالات الحديثة -بلا شك- تحول دون ذلك، أو على الأقل تجعل الجهات الرقابية تفقد التركيز في الحفاظ على الثقافات الخصوصية التي تتمتع بها بعض البلدان، وهذا ما يجعل كثيرا من تلك الثقافات الخاصة تذهب أدراج الرياح، ولهذا أصبحت الشعوب والمجتمعات تتلقى ثقافات جديدة، عبر بوابات معرفية منفتحة بلا أطر تقيدها، ولا سقف معين للحرية، وهذا ما يجعل البنية التحتية -لثقافة السائد الاجتماعي المتوارث – معرضة للانهيار. تجربتي الحياتية الشخصية مرت بها عديد من التحولات الاجتماعية والثقافية والأدبية التي تأثرت بها في حياتي، والتي شكلت عندي رصيدا كبيرا من الثقافات المتعددة، ولأنني من مواليد قرية صغيرة هي (القرفي) إحدى قرى وادي جازان في سهول تهامة تلك القرية البيضاء، البسيطة جدا، والتي لا يعرف أهلها سوى الزراعة (الري والحرث والرعي)، فيها بدأ عندي أول تشكيل للوعي، فقد تأثرت بهذه البيئة البكر، واستوفيت جميع شروطها وكامل حقوقها، فقد سقيت وحرثت ورعيت، وصرمت، ونقلت الماء من الآبار، ودونت كثيرا من ذلك في كتابي (يوم كنا) الذي طبع عام 1418ه، عن مطابع دار السروات بأبها، كما عرضت بسيرة ميّسرة للمجتمع الزراعي وأحداثه في روايتي (وانتهى موسم الحصاد) المطبوعة في العام 1425ه، عن دار السمطي للطباعة والنشر، وأول محاولاتي للإفلات من القروية التي يكرسها الأهل فينا، ويرعاها مجتمعنا القروي، كانت هذه المحاولة حين خرجت من رحم هذا المجتمع إلى مجتمع أكثر تمدنا، وأكثر رفاهية وإن كانت رفاهيته قليلة الدسم، فلم يكن هناك فارق كبير بين القرية التي عشت فيها والبلدة التي انتقلت إليها، إنما الملفت الذي أريد تسجيله أنني في تلك الفترة التي وصلت فيها إلى (أبها) هذه البلدة أو المدينة الأكبر قليلا من القرية عندما وصلتها كنت لا أعرف شيئا عن الكهرباء، ولا التليفزيون، ولا الصحافة، حتى الإذاعة كنت أسمع عنها فقط، ولم أتابعها إلا عند الاستماع لنتائج الطلاب الناجحين في مراحل التعليم العام، وهذا في حد ذاته حدث يضاف إلى تكويني المعرفي والثقافي. .يتبع..