قرّرَ صديقي (ذيبان) الاستعانة بي -ضمن رعاء الشاء الذين تطاولوا في البنيان- لمحاولة تطوير أسلوب رعينا حسب مقتضيات الزمن البترودولارِيّ الذي داهمنا على حين غفلة من حضارة المكان: رعاة من الهند أو كشمير أو إفريقيا.. سيارة (تويوتا شاص) لنقل الشعير المستورد ومعاناة الوقوف طويلاً أمام طوابير بيعه.. استبدال ملابسه التي لم تعدْ لائقة بسيّد يدير عمالة ويكفلهم ويأمر وينهى بدلاً عن الرّعي.. اشترطتُ عليه الصبر على متابعتي العالم بواسطة (تويتر) وجهازي الحديث (آيفون)، فأنا رجل أحبّ متابعات أخبار العالم، ولا يهمني ما حولي (لقد صرتُ عالمياً!)، أمام شرْطي أمر الراعي بإيقاف حركة غنمه مقهقهاً في وجهي بشدّة وهو ينظر معي على الشاشة إلى مقتل الزعيم -رحمه الله- أثناء حركة الربيع العربي. ما لك يا (ذيبان)؟ لم يستطع الحديث معي سوى بالضحك! سمح لراعيه وغنمه بتظاهرته المعهودة التي ترتجّ لها جوانب الوادي وسرنا بموازاة الغنم لكنْ دون أن يقف عن ضحكه! لقد سبّبَ لي أزمةً نفسية، لا أحدّثهُ عن شيءٍ على (الآيفون) إلا وضحك دون أن ينبس ببنت شفة!! يومٌ من الضحك لا أراكم الله مثله.. من جانب واحد وأنا -مع الأسف- مكتفٍ بسماعه ورؤياه، لم أستطع مشاركته، ولا ترْكَ شاشةِ عرض مصير الزعيم وأمثاله. انتهى نهارنا: جانب يضحك وآخر يثرثر متفرّجاً يكادُ يختنق صبراً.. في ساعة ما قبل الغروب وصلنا داره التي كان أهلها يستعدون في مثل هذا الوقت لاستقبال مواشيهم وحلبها وتنظيم لقائها بصغارها لتسمع هَيْلَمَةَ الوادي باختلاط أنواع الحياة بين البشر نساءً ورجالاً وأطفالاً وأغناماً وبَهْماً وكلاباً.. البيت وواديه أمامنا قفر سوى من أنواع الرّعاة من شتّى أقطار الأرض، كل منهم يفاوض كفيله على شيءٍ قبل رحيله إلى دياره واستقدام غيره.. لا تسمع ما عهدْتَه هنا، حتى المواشي انعدمتْ أصواتها وثغاؤها وعلاقتها بصغارها، لم تعد تحنّ إلى أوبة الغروب لإرضاعها، كما انعدمتْ علاقة النساء بالحياة المنظورة. أمكنني هنا استغلال تعبه بعد أن جرّبَ هذا اليوم مشاركة الراعي في المشي وضحكاً أرهقَنِيْ به: يا ذيبان، ما هذا؟ ألمْ تطلبْ مني إعانتك لتطوير وتحديث الرعي، فما الذي أجبرك على تحويل يومك معي إلى هذا الضحك الصامت وإرهاقي به؟ أجابني بنظرة شَزَرٍ أخجلَتْنيْ دون معرفة مغزاها، لكنها كانت تشيرُ بطريقة أو أخرى إلى جهازي وإلى يديَّ وعينيّ المتابعتين لما فيه عبر يومنا.. سألني مباشرة: ما هو ذيه؟ جهاز أتابع فيه أخبار ربيعنا العربي. ربيعنا! احتدم الحوار بيني وبينه حتى استطعتُ إفهامه بأن هناك ربيعاً عربياً في بعض الأقطار، وعرضتُ أمامه صور الزعيم القتيل والآخرين كلّ بما كُتِبَ له من سجن أو اختفاء أو… أو.. واستعرضت الربيع منذ ربيع (بلغراد) وغيرها حتى ربيع العرب. أعاد عليّ حالة اكتئابي طيلة النهار بالضّحك الذي أملّني. خيّرْتُهُ بين انْصرافي عنهُ مغاضباً أو الحديث معي بدلاً عن الضّحك المملول. تناولَ عقالاً كان يلبسه، وأشار باللمسِ إلى ثوبه الفاره الخالي من أي أثر للاتّساخ، وأظهر لي أسفل قدميه الملساوين النظيفتين إلى درجة الاحمرار، وبسط كفّيه الناعمين، ثمّ نظر إلى منزله الذي تخلو أماكنه الظاهرة من كل حياة أو حركة، وأشار إلى الراعي إشارة تدلّ على طلبه منه شراء اللحم واللبن والزبدة والخبز من إحدى بقالات البيع، وامتدّ مستلقياً يقهقه مع نجوم السّماء. قرّرتُ الرحيلَ عن مرض الضّحك.. لمْ يبالِ بعزمي مغادرته، ولم أستطع ذلك حتى أدرك سرّ تحوّل (ذيبان) الغناءِ وأجملِ الحديث إلى رجلٍ فاقد للكلام ضحوك! – عدتُ لتجريب هذه الحالة بجانبه (طبعاً مع الآيفون) -أن أقف أمامه صمتاً أتابع جهازي وأضحك- حتّى يذوق هو ما ذقتُه من مرارة صديق يستبدلُ الحديث مع صديقه ضحكاً بحتاً.. صرتُ أضحكُ فيضحك، وهكذا حتّى نعسْنا ضاحكَيْن متضاحكين. فجأة صاح الرجل ذاهلاً: ربيعي.. ربيعي. ما بك؟ ربيعي.. ربيعي. بعد حوار طويل أخرج لي بطاقة الصراّفِ الآلي لحساب الضّمان الاجتماعي وصاح: هذه ربيعي.. غنمي لمْ يعدْ منه جدوى وسأبحث له عن طريق.. بدويّ يشتري اللحم واللبن من ثلاجات البنغال، وفلاّحٌ يشتري الخبز من مخبزهم.. وموظّفٌ لا يملك سوى بطاقته ليأكل، وتاجرٌ لا يملك ما يتاجرُ فيه إلا مستورداً! كيف ترانا أنت وجهازك ومن يردّدون جملتكم الرناّنة (الربيع العربي) لو انقطعتْ عني هذه البطاقة؟ كيف أعود بعقالي وغترتي ويديّ وقدميّ الناعمتين إلى الحياة؟ وضعني صديقي (ذيبان) في حيرة وأثار عليّ أسئلةً كنت عنها في غنى مكتفياً بمتابعات ما بقي يعمل الآن من حركات الربيع ومحاكمات قضايا الفساد وصفقات المشروعات الضخمة، من هذه الأسئلة: ماذا لو أوقَفَ قادر عالميّ صرفَ البنوك دخولَناَ الرقمية قليلها وكثيرها، فقيرنا وغنيّنا؟ وضعتُ نفسي ومن أعرفهم جميعاً في هذا الموقف، ثم تساءلتُ معهم: هل هناك إرادات (ما) خطّطَتْ لشلّ إنتاجنا من الأرض والحيوان، ولشلل الأسر المنتجة في قرانا ومراعينا ومزارعنا وحتى آبار مياهنا، وجعلتْ كل حياتنا ومعايشنا مبنيّةً على صرف تلكم الآلات عبر قناة يسهلُ إيقافها أمام عاديات الزمن؟ أم أنني وصاحبي (ذيبان) قرويان لم نستوعب دولاب التغيّر الزّمنيّ؟ أو أنّ الحداثة أوقعتنا في تبلّد شعوريّ وحسيّ كلما أوغلنا فيها وفي ما بعدها حتى كانت أسئلتنا هذه خارج الزمن؟