في مستشفى الإرسالية الأمريكية بالكويت أواسط أربعينات القرن الماضي كان يرقد في إحدى غرف المشفى بالدور العلوي كهل نجدي أسمه «سالم الفعيمي»، وفي آخر زيارة شاهده بعض أهله ومحبيه ضحك أمام زواره وهو يغالب أوجاع السل.. ضحكة لم يعهدها أحد منهم قبل ذلك.. قبل أن تأخذه نوبة بكاء عارم حتى اعتقدوا انه لم يبق ثمة دموع تذرفها مقلتاه، وقال لهم وهو يكفكف دموعه: كنت من أشد المنكرين لزيارة هذا البلد (الكويت)؛ فكنا نهجر أي قادم منه ونقاطعه ثلاثة أيام متوالية..لا نسلم عليه ولا نرد عليه سلامه ولا نتحدث معه ولا نقبل منه أي هدية اشتراها بنقوده، وها أنا كما ترون أشاركهم المبيت والطعام والدواء وأبحث عن علاجي عندهم، وقد ادفن في مقابرهم (دفن بالفعل) مشاهدات «فيلبي» كشفت عن المستور مبكراً وطارق عبدالحكيم صنع الفارق موسيقياً ثم اخبرهم عن سبب بكائه وهو يتذكر حادثة ضمن حوادث كثيرة مشابهة لكنها كانت الأشد قسوة ولا يستطيع نسيانها نادماً على ما فعله قبل أن يدله الله على طريق الهدى، وتحديداً عندما كان في أوج حماسه أو تشدده الديني أثناء ما كان يخرج ضمن جماعات تجوب القرى والبراري يستوقفون كل من يلاقون لمباغتته ببعض الأسئلة المتعلقة بالعقيدة التي حفظوها بالتلقين، والتي يطبقها ويعرفها كل مسلم بفطرته حتى لو لم يساعده مخزونه اللغوي أن يوصلها لهم بصياغة السؤال والجواب، وإن لم يستطع أن يجيب عليها نصاً حلّ لهم أن يتقربوا به إلى الله قتلاً أو ضرباً. رفض الموسيقى طبيعي في مجتمع وصف الصابون ب«سعابيل الشيطان» والكرة ب«بيضة إبليس» قال لهم: توقفنا مرة عند رجل يصحب طفلاً عمره خمس سنوات مع إبلهم في الصحراء ، وقدّم لنا على الفور لبناً حلبه للتو كان يهم بشربه مع الطفل، وبعد ما شربنا وارتوينا ناولته الباقي الذي تقاسمه مع طفله، وفي أثناء ذلك باغتناه بالسؤال الذي نعتبر إجابته هي الحد بين الكفر والإسلام، وسألناه ما أول ما فرض الله عليك تلعثم الرجل وهو يرفع رأسه من الإناء؛ عندما عاجله أحدنا برمحه مخترقاً جسده وهو يرفع صوته بالتهليل والتكبير حتى رأينا الحليب ينزل مختلطا بالدم من صدره ( لا تزال صورة الحليب المختلط بالدم تلاحقني كل لحظة ).. مضينا بعد ذلك، وتركناه مع الطفل الذي ارتمى فوق جثته ونحن نبارك لصاحب السهم غنيمة القربى إلى الله، ويمضي الحديث إلى تصرفات غريبة كان يتبعها هؤلاء للتمييز بين الحلال والحرام قبل أن يقوض الله لهذه البلاد موحدها وباني نهضتها الملك عبدالعزيز الذي بادر أول ما بادر بإرسال المشايخ والدعاة إلى القرى والبوادي لتنوير الناس وتعليمهم المنهج الحقيقي للدعوة والدين الإسلامي.. تصرفات غريبة تحدث في جولاتهم أقلها عندما يطلبون من فتاة وجدت ترعى غنمها بالصحراء أن (تُقبَّل) أمامهم عابر سبيل أو راعي أغنام وجدوه يسرح إلى جوارها حتى لو كانت المسافة بينهما بعيدة لتثبت أنها من محارمه، وهي أي (القُبلة) الخيار الأوحد الذي يدفعون إليه كرهاً حتى لو كان لا يمت أحد منهم للآخر بصلة ولا سابق معرفة للخلاص من وصمة التجريم وعصي الجلادين، وكثيراً ما كانت هذه القُبلة مفتاحاً للشر بعد مغادرتهم، ولم يخف الرجل تخوفه أن يكونوا قد ساهموا في زرع فكر يصعب اجتثاثه يتشكل مع الزمن القادم يتحول إلى ممارسات سلبية وتبقى آثاره لسنوات طويلة. تحويل «مدرسة موسيقى الجيش» في الطائف إلى «معهد موسيقى القوات المسلحة» بالرياض ثقافة مجتمع فترة كانت فيها ثقافة الشك والتوجس هي الغالبة على معظم الأشياء عند البعض، وضد كل جديد اصطدمت مع الحاجة الملحة إلى تطوير بلد وليد كان لا يزال يتلمس خطواته الأولى؛ ليلحق بركب الدول المتقدمة الأخرى، وكاد هذا التوجس أن يعطل السيارة والبرقية والهاتف ومدارس البنات ومكبرات الصوت بالمساجد؛ لأنها من صنع وأفكار الكفار، بالإضافة إلى متطلبات أخرى إن لم يكن قد عطلها فترة من الزمن مثلما عطّل أو حرّم ضروريات مهمة تحت بعض الشعارات مثل الصابون الذي أطلقوا عليه (سعابيل الشيطان)، وكرة القدم (بيضة إبليس)، وقالوا من ادخل (الرادو) في بيته فكأنما ادخل إليه غانية (امرأة ساقطة)، ومن أكل الخس فهو ديوث. «مدرسة موسيقى الجيش» في منتصف السبعينات موسيقى الجيش وفي خضم هذا الصراع مع بداية تشكيل الجيش السعودي برزت الحاجة إلى موسيقى الجيش العسكرية كفن يعبّر عن روح الانضباط والحماس ويشد الجنود إلى حالة معنوية عالية، إضافة إلى السلام الملكي بعدما صرنا دولة ذات سيادة تستقبل ضيوفاً من مختلف دول العالم، وتفرض عليها «البروتوكولات» مثل ذلك -وهو موضوعنا اليوم-، والذي نبدأه بتوطئة من مشاهدات «جون فيلبي» -المستشرق الانجليزي- الذي كان حينها موجوداً وسط الحدث عندما قال في إحدى يومياته في الأربعينيات الميلادية: «بدأ الآن بالتدريج التخلص من الشكوك التي سادت عام 1927م، وتهدئة غليان الصدور من بعض المتحمسين للنظام القديم بفضل حكمة وحنكة الزعيم العظيم الملك عبدالعزيز، وبدأ رجال الجيش السعودي الجديد يعربون عن قناعتهم أن الجنود يتدربون ويقاتلون بشكل أفضل إذا سمعوا وتدربوا على إيقاع فرق الجيش الموسيقية، وعليه تم نظم نشيد وطني خاص بالمملكة العربية السعودية تم تأليفه وتلحينه في مصر؛ ليتم عزفه بمناسبة الزيارة التاريخية التي كان مقرراً لأبن سعود أن يقوم بها إلى مصر عام 1946م؛ مثل ذلك موضوع استخدام مكبرات الصوت بالمساجد التي لقيت بعض الاعتراض، ومشكلة الهاتف والاتصالات ومدارس البنات؛ حتى شرب القهوة العربية طالها الشك عند البعض وخلق موضوع السيارات والطائرات ذلك الحين بعض وخزات الضمير عند أولئك الأشخاص الذين كانوا يكرهون كلما هو أجنبي قاطن في الجزيرة العربية يستنشق التقشف النابع من التعصب الديني، لكن وبالرغم من المعارضة وبحكمة الملك المحنك تمكنت الطائرات والسيارات من فرض نفسها لتريح الجمال التي لم يعد لها حاجة في نقل الناس والمواد التجارية»(انتهى). الأمير منصور بن عبدالعزيز -رحمه الله- هيا اهتفوا.. ومرت فترة ما بعد مشاركة القوات السعودية وعودتها من حرب فلسطين سنة 1948م، وكانت موسيقى الجيش والسلام الملكي يؤديان بآلات نحاسية من قبل فرقة تم التعاقد معها أثناء ما كان الأمير منصور بن عبدالعزيز -رحمه الله- وزيراً للدفاع قبل أن تسند لصاحب السمو الملكي الأمير مشعل بن عبد العزيز، وفي بعض الأوقات كانت تؤدى الأناشيد ومنها السلام الملكي بدون موسيقى، وهي الكلمات التي استمرت من تلك الفترة إلى تاريخ السلام الملكي الجديد، حيث كانت كلمات السلام الملكي القديمة تنحصر في عدة كلمات: يعيش مليكنا المحبوب.. أرواحنا فداه حامي الحرم.. هيا اهتفوا.. عاش الملك هيا ارفعوا راية الوطن.. اهتفوا ورددوا النشيد.. يعيش الملك طارق عبدالحكيم وفي العام 1952م بعث صاحب السمو الملكي الأمير منصور بن عبدالعزيز وزير الدفاع بأحد ضباط القوات المسلحة وهو الفنان المعروف طارق عبدالحكيم؛ لدراسة الموسيقى في جمهورية مصر العربية من أجل تأسيس مدرسة موسيقات الجيش السعودي، إلاّ أن الضابط القادم من صحراء الجزيرة قوبل بشئ من التشكيك والتهكم بقدراته -ذكرها الموسيقار طارق في إحدى لقاءاته الإذاعية- يوم أن استقبلته الصحف المصرية بمانشيتات على صفحاتها الأولى قال عنها: تم إرسالي للقاهرة في عام 1952م أثناء فترة حكم الملك فاروق أي قبل قيام الثورة، وحُجز لي كرسي بمعهد الموسيقى للقوات المسلحة، وهناك استقبلتني الصحافة المصرية بعنوان «وصل اليوزباشي السعودي لدراسة الموسيقى والنوتة وهو لا يفقه الفرق بين نوتة الجيب والنوتة الموسيقية»، ودخلت المعهد ومعي 122 فرداً من جميع البلدان العربية، إلاّ إنني أخلفت ظنهم وتخرجت من المعهد في العام 1953م بتقدير امتياز وكنت الأول على الدفعة، و هنا نشرت الصحافة المصرية عني مرة أخرى تحت عنوان:»جاء من وراء المدافع ليرتقي أسمى درجات الفن». فرقة من الجيش تعزف السلام الملكي مدرسة موسيقى الجيش في ذلك الزمان تسارعت خطى الانخراط في العالم الحديث والتفاعل مع كل التطورات الجديدة وفي مجال الموسيقى العسكرية، ووفق تقرير نشرته «الرياض» قبل سنوات؛ فإنه قد تم تأسيس وافتتاح أول مدرسة للموسيقى العسكرية السعودية باسم «مدرسة موسيقى الجيش»، وذلك في العام 1372ه بمدينة الطائف، وأقيمت الدورات للراغبين في تعلم الموسيقى، وتم التعاقد مع مدربين وفنيين من الدول الشقيقة والصديقة، كما صاحب ذلك بعثات فنية للتدريب في العديد من تلك الدول، لاسيما (مصر) التي كان الضابط الأول ل»مدرسة موسيقى الجيش» من مبتعثي الدراسة فيها، ومن هذه المدرسة الأولى للموسيقى العسكرية بالمملكة، تكونت فرقة «موسيقى الحرس الملكي»، وفرقة «كلية الملك عبد العزيز الحربية» والعديد من فرق الموسيقى العسكرية الأخرى. معهد الموسيقى بالقوات المسلحه بالرياض معهد موسيقى القوات المسلحة وفي العام 1383ه تم تشكيل إدارة خاصة بالموسيقى العسكرية؛ تعبيراً عن المزيد من الحاجة إلى تأسيس جهاز إداري يتفرغ لأعمال الموسيقى العسكرية وما يتصل بها من مهام وقدرات وخبرات فنية، واضطلعت «إدارة موسيقات الجيش العربي السعودي» بهذا الأمر كمركز رئيسي بالرياض، وذلك بعد أن تم نقل (مدرسة موسيقى الجيش) من الطائف إلى الرياض في العام نفسه. ومع توسع فنون الموسيقى العسكرية، وتطور أنماطها، والحاجة المتجددة إلى التحديث في الموسيقي العسكرية، ومواكبة مستجداته في العالم شهد النصف الثاني من العام 1393ه إنشاء «معهد موسيقى القوات المسلحة» بالرياض، خلفاً ل»مدرسة موسيقى الجيش بالطائف». عزف السلام الملكي في مناسبة وطنية فرقة الحرس الوطني تستعد لعزف السلام الملكي