الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالعالم تؤرق الملايين في الشرق والغرب. إنها مالئة الدنيا وصانعة الأرق وهادمة اللذات السياسية، التي استمتعت بها الحكومات ردحاً من الزمن. ملايين الوظائف التي طوّحت بها الأزمة منذ اندلاعها أواخر العام 2008 حتى الآن، لم تعد محصورة في عمال البناء وندل المطاعم ومضاربي البنوك وسماسرة العقار.. بل أيضاً رؤساء الوزراء. اقتلعت الأزمة حتى الآن حكومتين أوروبيتين ظنتا ألن يقدر عليهما أحد في اليونان وإيطاليا. وتوشك الأزمة الاقتصادية نفسها أن تجعل من الرئيس الأمريكي باراك أوباما أول رئيس بفترة واحدة قرابة العقدين من الزمان؛ بسبب عجزه عن كبح جماح الأزمة التي ورثها من سلفه المتهوّر. أما اليابان التي اقتحمت الأزمة العالمية باقتصاد متراجع في الأصل، فقد استهلكت خمسة رؤساء وزراء في السنوات الخمس الماضية. وبقدر ما للأزمات الاقتصادية في التاريخ من ضحايا ومآسٍ متكررة.. إلا أن لها بضع فوائد. أولاها، أن عهود الأزمات الاقتصادية تدير عجلة الأفكار وتضع علماء الاقتصاد أمام تحديات واقعية تلهب حماسهم وتشحذ هممهم. والكثير من عهود الرغد الاقتصادي اعتمدت على نظريات وأفكار ولدت في عهود الأزمات الاقتصادية، وتم اختبارها في الظرف الأصعب قبل أن يتم اغتنامها في الظرف الأفضل. وما زالت الأزمات الاقتصادية الشهيرة مثل انهيار الأسهم الأمريكية في العشرينيات، وأزمة أسعار النفط في السبعينيات، وأزمة النمور الآسيوية في التسعينيات وفقاعة الإنترنت في الألفين، تشكل مختبراً نظرياً وعملياً لأغلب القرارات الاقتصادية التي يتخذها العالم اليوم. ثانية الفوائد هي أن الأزمات الاقتصادية تمنح السياسيين تبريرات كافية للقيام بالإصلاحات الجذرية المؤلمة. فمن الصعب إقناع الشعوب الدافعة للضرائب بضرورة رفع الضريبة تحسباً لتقلبات المستقبل، ما لم تكن هذه التقلبات قد بدأت بالفعل. ومن الصعب إقناع الشعوب الريعيّة بضرورة خفض النفقات الحكومية، ما لم تكن المؤشرات الاقتصادية السلبية واضحة للجميع. وكل اقتصاد عالمي، أياً كانت صلابته، يمرّ بعهد يحتاج فيه إلى عملية جراحية قد تكون مؤلمة لفئات كثيرة من الشعب ولكنها ضرورية للبقاء على قيد الحياة. هذه العملية الجراحية هي ما تحاول الحكومة البريطانية إقناع شعبها به عن طريق خطة التقشف المقترحة، وكذلك فعل اليونانيون والإيطاليون والإيرلنديون، وسوف يعقبهم الإسبان واليابانيون قريباً مضطرين غير مختارين. الفائدة الثالثة للأزمة الاقتصادية أنها ترفع من كفاءة الأداء الحكومي والخاص على حد سواء. فالحكومات لا تملك دافعاً حقيقياً لتحسين أدائها في الزمن السعيد عندما يكون العيش رغيداً وإرضاء الشعب سهلاً. كذلك تفعل الشركات التي تتبع نظرية عدم إصلاح ما ليس مكسوراً. إن نقص الموارد الحكومية بسبب ضعف الاقتصاد يضطر الحكومة للإتيان بوسائل أكثر كفاءة لتخفيض النفقات واستغلال الموارد الشحيحة بكفاءة أكبر. الشركات التي تكتشف أن زبائنها قد عصفت بجيوبهم الأزمة الاقتصادية يسعون إلى إعادة استقطاب الزبائن بتحسين منتجاتهم، وتخفيض أسعارهم، وهذا بالتأكيد لا يتحقق إلا عن طريق خفض النفقات التشغيلية، ما يتطلب إصلاحات إدارية وفنية عديدة. يفاجأ المجتمع بعد أن ينقشع غبار الأزمة الاقتصادية أن مؤسساته الحكومية والخاصة أصبحت على قدر من الكفاءة لم يكن معهوداً قبل الأزمة، وقد صقلت أداءها الصعوبات التي تجشمتها لتظل على قيد الحياة أثناء العاصفة. فائدة رابعة للأزمة الاقتصادية أنها تنطبع في الذاكرة الشعبية؛ لتؤثر -بقدر فداحتها- على سلوكيات جيل بأكمله، لتجعله أكثر حنكة فيما يتعلق بالمال، وأفضل تدبيراً فيما يتعلق بالادخار والاجتهاد، وعدم الثقة في استمرارية الرغد. جيل الأمريكيين الذين عاشوا أثناء أزمة الثلاثينيات الفادحة ما زالوا حتى اليوم -من بقي منهم على قيد الحياة بطبيعة الحال- يتحسرون على الهدر والاستهلاكية والإسراف الذي صار طابع المجتمع الأمريكي. وجيل الأجداد في السعودية ما زالوا غير قادرين على إقناع أحفادهم بما يعنيه إبقاء المصباح مشتعلاً طيلة الليل أو التذمر من مشاقّ الوظيفة. ولا شك أن الأجيال التي حنّكتها الصعوبات الاقتصادية غالباً ما تضع اللبنات الأساسية لاقتصاد الأجيال المقبلة. خامسة الفوائد تكمن في توطيد العلاقة بين الشعب والحكومة، رغم أن الأزمات الاقتصادية تبدو في ظاهرها حقل توتر بينهما. ولكن الحقيقة أن الرغد الاقتصادي غالباً ما يجعل الشعوب أقل اهتماماً بمراقبة أداء حكوماتها بما أن كل شيء يجري على ما يرام. هذه الغفلة عن مراقبة الحكومة ومساءلتها أدت في دول كثيرة إلى استفحال الفساد وتفشي الاستبداد. يفاجأ الشعب -بعد أن تدق الأزمة الاقتصادية أبوابه- أن حكومته لم تعد هي نفسها الحكومة التي انتخبها، بل تغوّلت واستبدّت. وهنا يتعين على الدولة بدلاً من الانخراط في إصلاحات اقتصادية عاجلة، أن تبدأ بإصلاحات سياسية غالباً ما تكون معقدة ومكلفة ومضرة بالاقتصاد في أحوج أوقاته للاستقرار السياسي.