صحيح أن المحبة لا تكتمل إلا ببرهان، ولكن محبتنا لسوريا -نحن العرب ومن قبل ومن بعد نحن المصريين- لا تحتاج لبراهين. ومع هذا فإني أكتب الآن مدفوعا بالقلق أكثر من المحبة. فلم يعد بالإمكان الحديث عن سوريا باعتبارها «ثورة» ماضية في الطريق على النموذج التونسي والمصري: انتفاضة خاطفة تثمر سريعا ثمرا لم يطب بعد فتسرقه قوى غير ثورية وتسمي نفسها ثورية قبل أن تمضي بالشعلة إلى حيث لا يعلم أحد وسط محاولات لاسترداد ما لا يسترد بغير الثورة. سوريا أيضاً لم تعد تمضي في طريقها على النموذج اليمني: انتفاضة غير مفهومة تماما (أقرب لغضب محض) ومبكرة على نحو محزن تظل تنتفض كسمك مخير بين مغادرة الماء إلى الأبد أو البقاء فيه للأبد فيظل يقفز قفزات وقفزات حتى لتبدو أمام الرائي كرقصة بلا معنى. هي أيضا -أي سوريا بالتأكيد تجاوزت الخيار الأخير. حتى وقت غير قريب تماما ظل البعض يشبّه سوريا بليبيا: ثورة تشتعل وسرعان ما تتحول لثورة مسلحة يتبادل فيها الطرفان العنف لفترة ليست طويلة ثم تتسارع وتيرة نجاحات طرف الثورة المسلحة ثم ينتهي النظام في ليلة وضحاها، فينام الليبيون في «نظام» لتتفتح عيونهم في الصباح في «نظام جديد».. نظام أعدّ له جيدا مجموعة من الرجال الأقوياء الطيبين الذي سهروا على الثورة يخططون للمستقبل على صوت المعارك الدائرة في الأفق. سوريا لم تعد ليبيا منذ زمن. وكان علينا نحن الذين نستعجل النجاحات أن نفهم أن سوريا لن تكون ليبيا بأي حال من الأحوال. ليس فحسب لأن الثورات لا تتشابه، ولكن أيضا لأن الأنظمة لا تتشابه، حتى ولو أمكن جمعها ببساطة مخلة في سلة الأنظمة المستبدة. الفارق الذي كان علينا أن نفهمه بين الثورة في سوريا والثورة في ليبيا أن «النظام» السوري ليس هو «النظام» الليبي، وأن «دولة النظام» السوري ليست «دولة» النظام الليبي. الأخيرة لم تكن مؤسسة على الطائفية.. صحيح أنها كانت مؤسسة على علاقات مصلحة بين عدة قبائل ولكن هذه العلاقات كانت عرضة للتغير والتبدل طوال الوقت. القذافي ظل طوال سنواته الأربعين ينقلب على أصدقائه كل فترة، ومن يبيتون ليلتهم قابضين على ذهبه يصحون فلا يجدون رؤوسهم في مكانها بعد أن يطيح بها سيفه. بعد سنوات عمره الطويلة أدرك الجميع تقريبا أنه لن يأمن شره غير عائلته وأولاده الذين «عسكروا» في مفاصل الدولة. ليبيا أيضا لم تكن دولة بالمعنى المعروف فلم تكن لها قوات نظامية حديثة رغم الطائرات بالغة القوة ، المبالغ في أسعارها، التي كان نظامه يشتريها بين الحين والآخر، لكن شراء هذه الطائرات وغيرها من الأسلحة كانت فيما يبدو تُشترى على سبيل «الاقتناء» كالخنجر التاريخي الذي يعلقه فوق سريره.. خنجر للزينة لا حاجة لأحد به. القذافي نفسه كشخص غريب الأطوار كان يفرض غرابة أطواره على «نظام» دولته كعمل غير مسبوق وغير ملحوق في تاريخ السياسة، القذافي لم يشبه غير نفسه في التاريخ. كان قراره الصباحي بإلغاء بعض الكليات والتوقف عن استمرار الدراسة في بعض التخصصات حتى أثناء العام الدراسي كان أمرا معتادا، وكان على طلاب السنة الثالثة في كلية الهندسة أن يستكملوا عامهم الأخير فجأة في كلية الآداب! هذا اللانظام كان هشا للغاية حتى أن تدخل قوات الناتو في ضرب بعض مراكز قوات القذافي لم يكن بغية حسم المعركة ولكن بغية تسريع وتيرة الأحداث نحو نهايتها المحتومة. أما نظام الأسد ودولته فأمر آخر، وكان علينا أن نفطن لذلك منذ البداية. لهذا أقول إن الموقف في سوريا أصبح أزمويا لدرجة مرعبة. ثمانية عشر شهرا لم تشىِ بأن النهاية سوف تكون لصالح أي من الطرفين. حتى أن الأمور تبدو الآن كما لو أننا أمام طرفين منتصرين منهزمين في الوقت نفسه. توازنات القوى داخليا أصبحت مرعبة فلم يعد بإمكاننا الانشغال بما يحدث إلا بتوقع الأسوأ. شبح الحرب الطائفية وشبح التقسيم وشبح تفكيك الدولة أشباح لم يعد بالإمكان تقبلها مهما كانت النتائج تسير في صالحنا. النظام السوري نتيجة لتكوينه الداخلي وعلاقاته الداخلية التاريخية أصبح ملتصقا بالدولة نفسها كما لو أن سقوطه يعني سقوطها. وفي الوقت نفسه فإن الثورة لن تحتمل فشلا. فشل الثورة السورية لا يعني فحسب استعادة الأسد لقبضة أشد شراسة وعنفا وفتكا ولكنها قد تعني استعادة الأنظمة العربية الاستبدادية كلها، وبخاصة في دول الربيع العربي، لقوتها وحضورها، وعودة العالم لنقطة البداية مرة أخرى، بل ربما العودة لنقطة البداية للمرة الأخيرة!