في الوقت الذي كانت فيه مساجد المسلمين تعمر بالمتهجدين يجأرون إلى الله تعالى بالدعاء للمستضعفين في ليبيا وسوريا.. فاجأتنا طلائع الشباب الليبي وهي تقتحم طرابلس وتعلن سقوط القذافي وكانت فرحة عارمة في الشارع الإسلامي من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب؛ وذلك لإجرام القذافي وأسرته في حق الشعب الليبي وسومهم سوء العذاب أكثر من أربعة عقود، واستحلاله لدمائهم وأعراضهم ونهبه أموالهم، أخزاه الله تعالى ومن أعانه على بغيه في الآخرة كما خزي في الدنيا. ومما زاد فرح المهتمين بمجريات الأحداث أن النظام الليبي الساقط نظام باطني خبيث يسعى لإحياء الباطنية ونشرها في شمال إفريقية، ولا شيء أكثر خطرا على الإسلام والمسلمين، ولا أكثر خدمة للاستعمار والمستعمرين من الفرق الباطنية التي أسسها أعداء الإسلام لتنخره من داخله.. والحقيقة أن هذا النصر المؤزر في رمضان المبارك أعاد ذاكرتنا اثني عشر قرنا حين انتصر المسلمون أيضا في رمضان في دولة الخليفة العباسي المعتصم بالله على الباطني الخبيث بابك الخرمي والقضاء على حركته التي كانت من أخطر الحركات الباطنية، وكانوا يستحلون المحرمات، ويقولون باشتراكية الأموال والأعراض، ولا يعترفون بالزواج ولا بملكية المال، وكان هذا المذهب الخبيث من اختراع مزدك، وبقيت بقاياه وأتباعه في البلاد الفارسية، فلما جاء الله تعالى بالإسلام وفتحت بلاد فارس كان أهل هذا المذهب يدينون به فيما بينهم ولا يظهرونه، ويشكلون خلايا سرية لنشره، حتى رأس هذه الطائفة بابك بن بهرام عام201ه في خلافة المأمون العباسي، فأظهر دعوته وحشد أنصاره، وتحصن بجبال البذ قرب أذربيجان، وصار يغير على بلاد المسلمين فيقتل وينهب ويغتصب النساء ويستبيح كل محرم في بلاد المسلمين، ونال المسلمين منه عنت شديد، ورهق كبير، خلال عشرين سنة فقتل فيما ذكر الطبري مئتين وخمسين ألفا، واستباح من حريم المسلمين سبعة آلاف؛ حتى أفتى الإمام أحمد بقنوت النوازل عليه. واتجهت همة الخليفة العباسي المعتصم للقضاء عليه، وفي مستهل العشر الأواخر من رمضان عام 222ه في خلافة المعتصم العباسي هزم المسلمون بابك الخرمي وفتحوا البذ وهي البلد التي تحصن بها قرب آذربيجان، وهرب بابك واختفى فعثر عليه الموتورون من المسلمين بعد خمسة أشهر من اختفائه في صفر عام 223ه فأمر المعتصم بصلبه فقتل وصلب في سامراء، وذكر المؤرخون أن الناس لما علموا بالقبض على بابك فرحوا فرحا شديدا، ولما طيف به قبل قتله خرج الناس لرؤيته وضجوا بالتكبير والشكر لله تعالى، فكان نصرا عظيما للإسلام والمسلمين مهّد في العام نفسه لفتح عمورية أعظم بلاد البيزنطيين آنذاك، والتي عدت من مناقب المعتصم واشتهر بها.. وهاهو التاريخ يعود من جديد، فيقدر الله تعالى بحكمته سقوط طرابلس وهرب القذافي وعصابته إلى سرت، في مستهل العشر الأخيرة المباركة من رمضان هذا العام 1432ه وكان نصرا مؤزرا، وعيدا لأهل الإسلام ولا سيما أهل ليبيا الذين ذاقوا طعم عيد الفطر بهزيمة العبيدي القذافي وهربه، وما هي إلا شهران فقط حتى دخل الأبطال عليه مخبأه، وأخرجوه منه مضرحا بدمائه [فَللهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ * وَلَهُ الكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {الجاثية:36-37} والقذافي منذ أن اغتصب السلطة وهو شاب غر بترتيب من الاستخبارات اليهودية والغربية كما ذكر ذلك عدد من الكتاب الليبيين، وألمح إليه السياسي المصري المخضرم حسين الشافعي حين ذكر في شهادته على العصر في قناة الجزيرة أن أياد أجنبية مكنت للقذافي من حكم ليبيا، وهو معاصر لحركة الانقلاب على الملكية في ليبيا، ويشغل منصب نائب الرئيس المصري، فمنصبه يعينه على الوصول للمعلومة، إضافة إلى أنه سياسي متمرس لا يلقي الكلام على عواهنه. ومنذ أن تولى القذافي حكم ليبيا كانت له علاقات ممتازة مع الباطنيين: فمع إيران دولة الباطنيين القوية والناشئة بعد ثورة الخميني احتفى بها القذافي وأرسل وفدا من خمسين شخصا قابلوا قادة الثورة الإيرانية ليعلنوا ميول ليبيا إلى الفاطمية، وأن ليبيا أقرب الناس إلى الشيعة. ثم بعد سنوات أعلن القذافي في خطب كثيرة ومناسبات عديدة أنه يسعى بجد لإحياء الدولة الفاطمية التي قضى عليها أهل السنة بقيادة صلاح الدين الأيوبي محرر القدس من الصليبيين، ومحرر مصر من العبيديين المتسمين بالفاطميين. وكان العلاقات الليبية الإيرانية طيلة ثلاثة عقود دافئة جدا، ونقاط الالتقاء والتعاون بين النظامين أكثر من نقاط التوتر والافتراق، رغم ثورية إيران التي عادت بسببها أكثر دول العالم، ورغم شذوذات القذافي التي خسر فيها أكثر صداقات زعماء الدول، ولكن الاشتراك في الباطنية بين النظامين أقوى. وفي الحرب العراقية الإيرانية كان القذافي -ووقتها كان قوميا عروبيا- يزود الإيرانيين بصواريخ سكود الروسية الصنع لتدك المدن العراقية..كما ذكر ذلك عبد الرحمن شلقم الذي كان آنذاك وزيرا للإعلام في ليبيا ثم صار وزيرا للخارجية، فكانت باطنية القذافي أقوى من قوميته. وذكر شلقم أن القذافي أعد مشروعا للمزاوجة بين فكره الأممي حسب رؤيته وبين المذهب الشيعي وادعى أنه من أحفاد موسى الكاظم. وفي خضم المذابح التي تلطخ بها القذافي أثناء الثورة اعترض الثوار الليبيون طريق سفينة محملة بالأسلحة روسية الصنع أبحرت من إيرانلطرابلس مرورا بالعراق وسوريا لدعم القذافي!! ووجه المرشد الأعلى للثورة الإيرانية خاميني توجيهاته لقوات القدس التابعة للحرس الثوري لمساعدة القذافي عسكرياً ضد الثوار الليبيين. وأرسل رئيس جهاز الاستخبارات الإيراني التابع للحرس الثوري، حسين طائب إلى ليبيا فريقاً من كبار الضباط التابعين له مباشرة. وأما في العلاقة مع سوريا فكانت علاقة القذافي بحافظ الأسد جيدة، وكانت سيئة مع صدام حسين رغم أن النظامين كانا ثوريين بعثيين عسكريين وصلا للسلطة بالانقلاب، ودعم القذافي أكراد العراق ضد صدام حسين، واستضاف قادتهم، ودعم المعارضة العراقية في الخارج.. وذكر شلقم أن أكثر المقربين للقذافي من الفلسطينيين كان أحمد جبريل الأمين العام للجبهة الشعبية، وأحمد جبريل كان من أكثر العملاء المخلصين للنظام النصيري السوري داخل منظمة التحرير الفلسطينية!! واشترك سيف الإسلام القذافي وبشار الأسد في الاستنجاد بالملياردير النمساوي اليهودي مارتن شلاف للضغط على تل أبيب وواشنطن في دعم النظامين الليبي والسوري ضد الثوار. ولما عين شلقم مندوبا لليبيا في الأممالمتحدة كانت وصية القذافي له بأن يؤلب المجتمع الدولي على السعودية والوهابية، وعد هذه هي مهمته الأولى في منصبه الجديد.. فالباطنيون يجمعهم المذهب على أهل السنة وإن تعادوا وتباغضوا داخل مذهبهم، فمتى يعي السياسيون العرب أن الاشتراك في الباطنية يفوق أي اشتراك آخر، وقد ضحى النظامان الليبي والسوري بقوميتهما العربية لأجل إيران الفارسية، ولا جامع بين إيران والنصيريين والقذافي إلا المذهب الباطني فحسب، على ما بينهم من عداوة داخل مذاهبهم لكنهم يد واحدة على أهل السنة. ولقد كانت نهاية القذافي شرا من نهاية صاحبية بن علي الهارب وحسني مبارك المسجون، فبعد أن عاش أشهرا في التخفي والرعب والذل اقتحم الأبطال عليه حصونه، وقبضوا عليه وهو جريح ذليل قد طأطأ رأسه من الذل، وزالت عنه أوهام الكبرياء والعظمة، ثم مات متأثرا بجراحه غير مأسوف عليه، وكنت وأنا أشاهد صورته أتذكر خطبة لابنه سيف الإسلام، وهو يصيح في الناس قائلا: القذافي ليس بن علي وليس حسني مبارك، وسوف يظل في البلاد إلى النهاية بحماية الجيش والأمن.اه وذكر القذافي في خطبه أنه سيبقى قائدا للثورة إلى الأبد، وهاهو القذافي مات شر ميتة، ولم يبق إلى النهاية؛ فالحمد لله الذي أراح المسلمين منه. لقد تذكرت وأنا أشاهد القذافي في دمائه مشهد رجل ليبي قتلت كتائب القذافي أسرته، وفجعوه في أولاده، فخرج على الشاشة يصيح وعيناه تدمعان قائلا: (يا ويلك من الله يا معمر) وقلت في نفسي: تالله لقد ذكّره بعظيم، وخوفه بمن يخاف منه، وبمن لا مفر منه إلا إليه، وكلما قرأت خبرا عن ليبيا، أو جاء ذكرها، جال في خاطري قول ذلك الرجل الموتور في أهله: يا ويلك من الله يا معمر.. ولما رأيت الطاغية بالأمس في دمائه علمت أن الله تعالى قد انتصر لذلك المستصرخ، وانتصر لملايين الليبيين والمسلمين أجمعين، وشفى صدورهم من الطاغية اللعين. والفرح بموت الهالك يكون على قدر مصيبة أهل ليبيا به، وهي مصيبة عظيمة فوق أن نتصورها، أعظم الله تعالى لهم الأجر والمثوبة على ما ضاع من أعمارهم في حكمه، وإبان سقوط طرابلس في يد الثوار كتب الليبي هشام مطر مقالة تقطع القلب، وتبين حجم المأساة، ومما قال فيها: "لقد تخلصنا من معمر القذافي، لم أتخيل في حياتي أنني سأتمكن من كتابة هذه الكلمات". وكان يتوقع أن يكتب شيئا مثل "مات القذافي عن عمر كبير"، ويقول إن هذه العبارة كانت ستكون "جملة مروعة" بسبب ما تشير إليه من "مستقبل قاتم وسلبي". وأخيرا أشير إلى أن هذا النصر العظيم بقتل القذافي سيشحن عزائم إخواننا في سوريا ضد النظام الدموي النصيري لإسقاطه، وسيبث الرعب في قلوب الطواغيت، وسيزيد من هيبة الشعوب وقوتها.. كما أنه أثبت أن الشعوب إذا ثارت ستسقط الأنظمة مهما كانت دموية النظام وقدرته وقوته، بل إن بطشه لا يزيد الناس إلا إصرارا على إزالته والصمود في وجهه، وثورتا ليبيا وسوريا أقرب شاهد على ذلك.. أسأل الله تعالى أن يسقط النظام النصيري، وأن يشفي المكلومين في بلاد الشام من آل الأسد وعصابتهم، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق، وأن يعد الاستقرار إلى تونس ومصر وليبيا واليمن في حكم إسلامي عدل، إنه سميع مجيب.. إبراهيم بن محمد الحقيل