د. حاتم بن سعيد الغامدي، د. جبران يحيى المصابون يعتبرون معاناتهم طبيعية ويربطونها بالخجل والأحباط 90 % ممن يعانون الرهاب الاجتماعي تعرضوا للضرب والتوبيخ في طفولتهم ينظر بعض الناس إلى معاناتهم وشكواهم المرتبطة بالرهاب الاجتماعي على أنها معاناة عادية طبيعية مرتبطة إلى حد ما بالخجل والإحباط، وأنها في الغالب ما هي إلّا سمة عامة تشيع بين الناس، لدرجة أنها لا تتطلب أي نوع من العلاج الرسمي، أو أي نوع من التدخل، أو أي نوع من الأدوية الطبية النفسية، أو حتى المعالجات النفسية. ولكن هذا الاعتقاد خاطئ تماماً، وأبعد ما يكون عن الحقيقة، لأن 7 14% من الجمهور العام تقريباً يعانون من اضطراب الرهاب الاجتماعي، الذي يبدو في ظاهره عملية تفاعل اجتماعي بسيط بين الفرد والآخرين، أو مجموعة من العلاقات الاجتماعية التي تسبب نوعاً من الرعب والفزع الشديد الذي يتم تجنبه في الغالب الأعم، لذا يكون تأثير هذا الاضطراب على وظيفة الفرد ومهنته كبيراً، ويمكن أن يكون مدمراً. لحياته. نعرض هنا تفصيلاً أكثر عن الرهاب الاجتماعي، ومسبباته الاجتماعية والنفسية، لكن لن نتعرض لأسبابه الوراثية الطبية البحتة، بل نتناول أهم مسبب له من وجهة نظرنا، وهي أساليب التنشئة من الوالدين، إضافة إلى خبرات الطفولة، وبشيء من التحليل النفسي، علها تكون أنموذجاً من التوعية والتثقيف الأسري في تربية الأبناء. تعريفه هو شكل من أشكال القلق العام، وفيه يخاف المضطرب ويفزع من مجموعة متنوعة ومتباينة من المواقف الاجتماعية والأدائية (المهنية)، لأنه يعاني نوعاً من الخوف والحيرة بسبب توقعه نوعاً من الضعف في أداء مهنته وواجباته، أو بسبب خوفه من أن تظهر عليه أعراض القلق، ويصبح عرضة للنقد من قبل الآخرين. وعادة ما يقع الأشخاص الذين يعانون من الرهاب الاجتماعي تحت وطأة المثالية العالية في الأداء أمام الآخرين من جهة، والخوف نتيجة التوقع للرفض، أو الفشل من قبل الآخرين. وتسبب حالة الرهاب و»الخوف» الاجتماعي أعراضاً متفاوتة، مثل احمرار الوجه، ورعشة في اليدين، والإحساس بالغثيان، والتعرق الشديد، والحاجة المفاجئة للذهاب للحمَّام. وعادة ما يعاني المضطرب بالرهاب (الخوف) الاجتماعي من واحد، أو أكثر، من هذه الأعراض، عندما تتعرض للمناسبة الاجتماعية التي تسبب الخوف. وفي بعض الحالات، يكون مجرد التفكير في تلك المناسبات سبباً للقلق والخوف. ونتيجة لذلك، فإن مريض الرهاب الاجتماعي يبذل محاولات جاهدة لمنع حدوث هذه الأعراض، وعدم ظهورها أمام الناس، مما قد يدفعه إلى تجنب هذه المناسبات بصورة نهائية، ولهذا أثر مدمر على الحياة الاجتماعية الطبيعية التي يجب أن يكون عليها. ومن هنا، لا يشخص عادة اضطراب الرهاب الاجتماعي بمعزل على اضطراب القلق العام، أو اضطراب الشخصية التجنبي، التي تكون عادة ملازمة لمريض الرهاب الاجتماعي ضمن التشخيص العام للحالة. التشخيص الفارقي يعرف النفسانيون التشخيص الفارقي بأنه الأعراض المتداخلة والمتشابهة بين اضطرابين، أو أكثر، التي يجب الانتباه إليها عند التشخيص العام الدقيق للحالة. وفي موضوع الرهاب الاجتماعي، نقول إنه على الرغم من أن مرضى الرهاب الاجتماعي قد تنتابهم نوبات من الهلع في المواقف الاجتماعية في بعض الأحيان، وعلى الرغم من أن كلاً من مرضى الرهاب الاجتماعي، ومرضى اضطراب الشخصية التجنبي، يتحاشون مواقف اجتماعية شبيهة (كتناول الطعام في أحد المطاعم العامة)، فإن كلا الاضطرابين متمايزان بوضوح. وعند التوصل للتشخيص الفارقي، يجب التعرض لثلاث قضايا بالمناقشة من قبل المختص للحالة، وهي: 1 هل الشخص، أو المريض، يخشى من الأعراض نفسها؟ 2 هل تحدث نوبات الهلع في مواقف غير اجتماعية؟ 3 هل تكون بداية نوبة حدوث الاضطراب، سواء أكانت نوبة هلع مصحوبة بالخوف المرضي من الأماكن الفسيحة، أم نوبة رهاب اجتماعي، بداية أنموذجية شديدة الوضوح؟ ومما يزيد الأمر تعقيداً أن أعراض كل من الرهاب الاجتماعي، ونوبات الهلع المصحوبة بالخوف من الأماكن الفسيحة، تكون شديدة التداخل والتشابه. نسب الانتشار كشفت دراسات (قديمة) عن نسب انتشار الرهاب الاجتماعي، التي أجراها المعهد الوطني للصحة النفسية الأمريكي على مدى ستة أشهر، أن معدل الانتشار لاضطراب الرهاب الاجتماعي، يتراوح بين 0.9% 1.7% لدى الرجال، و بين 1.5% 2.6% لدى النساء. في حين أن دراسات حديثة أشارت إلى أن اضطراب الرهاب الاجتماعي وصلت نسبة انتشاره إلى ما بين 7 14% في المجتمعات الغربية، وهو يظهر عند الإناث والذكور بنسبة 2 إلى 1، ويظهر عادة في سن الطفولة، أو المراهقة. وهذا يدل دلالة واضحة على زيادة نسبة الانتشار لهذا الاضطراب بين الناس، وخصوصاً بين فئة المراهقين. ولم يكن العرب أفضل حالاً من أرقام النسب العالمية، فقد أشارت دراسات أجريت على الوطن العربي، بالإضافة إلى الملاحظات العيادية، إلى أن هذا الاضطراب واسع الانتشار في مجتمعاتنا العربية، وتصل نسبة المصابين به من مرضى العيادات النفسية إلى حوالي 13% من عموم المرضى. يبدأ هذا الاضطراب مبكراً في سن الطفولة، أو بداية المراهقة، حيث تبدأ معظم الحالات في الظهور عند سن الخامسة عشرة تقريباً. ووجدت دراسات مختلفة أن هناك مرحلتين يكثر فيهما ظهور هذا الاضطراب: ما قبل المدرسة على شكل خوف من الغرباء، ومرة أخرى بين 12 17 سنة على شكل مخاوف من النقد والتقويم الاجتماعي، وتندر الإصابة به بعد الخامسة والعشرين من العمر. وعلى الرغم من أن الإصابة بالرهاب الاجتماعي تحدث في هذه المراحل المبكرة، إلا أنه يُعد أيضاً من الاضطرابات النفسية المزمنة التي قد تستمر عشرات السنين. ومع ذلك، فإن المصابين بالرهاب الاجتماعي حتى مع علمهم بهذه الحالة قد يتأخرون في طلب العلاج سنين عديدة، إما بسبب خجلهم من الحالة نفسها، أو خوفاً من مواجهتها والاعتراف بوجودها، ولا شك أنه خلال هذه السنين من المعاناة والألم النفسي، فإن المريض بالرهاب الاجتماعي يتعرض لسلسلة من المشكلات والخسائر الاجتماعية والمادية والمهنية والصحية، مما يصح معه تسمية هذا الاضطراب ب»الإعاقة النفسية». هذه الإعاقة التي يسببها الرهاب الاجتماعي يساهم فيها المريض بنفسه، نتيجة لمحاولاته إخفاء علته حتى عن المتخصصين في المؤسسات العلاجية أحياناً، مما يحرمه التعاطف والدعم اللذين يحظى بهما المعاق جسدياً. وعلى سبيل المثال، لا الحصر، فإن 80% من مرضى الرهاب الاجتماعي يعانون من أمراض نفسية أخرى من أبرزها: القلق والفزع ورهاب الساح 45%، وأنواع أخرى من الرهاب والمخاوف 59%، واستخدام الكحول 19%، والاكتئاب النفسي 17%. وفي كل الحالات، فإن حدوث الرهاب الاجتماعي يسبق وجود هذه الاضطرابات، مما قد يوحي بوجود علاقة سببية بينها. كذلك فإن الرهاب الاجتماعي يرتبط بنسبة كبيرة من التأخر، أو التدهور الأكاديمي والنجاح الوظيفي، وذلك لما يسببه الرهاب الاجتماعي من فوات للفرص التي يمكن أن تؤدي للتقدم والترقي في سلم العلم، أو الوظيفة. علاقته بالتنشئة لا شك أن لخبرات الطفولة أهميتها، بل خطورتها في المراحل المتأخرة من نمو الشخصية، فالإطار الأساسي لشخصية الفرد يتشكل خلال الخمس سنوات، أو الست الأولى، من عمر الطفولة. كذلك العادات التي تتم في مرحلة الطفولة من الصعب التخلص منها في المراحل اللاحقة من النمو. فالطفل الذي يخفق مثلاً في تنمية إحساس مراعاة الغير، أو الشعور بالثقة في النفس، يخفق مثلاً في تنمية هذا الإحساس، وهذا شعور في فترة المراهقة، أو حتى عند بلوغ سن الرشد، والطفل الذي يخفق في القراءة في المرحلة الابتدائية يكاد يستعصي عليه التغلب علي هذه المشكلة في المراحل التعليمية التالية، وهكذا فإن أحداث الطفولة واتجاهات التطور في تلك السنوات المبكرة تلقي ظلالها المؤثرة في مستقبل الفرد. ويمكن القول بأن الشعور بعدم الثقة من أهم المقومات التي تؤدي إلى الرهاب الاجتماعي، ومن المهم البحث عن الأسباب، كما يمكن أن يكون اكتساب الرهاب الاجتماعي عن طريق التعلم المباشر، عن طريق تقليد الأنموذج، فمثلاً إذا تكرر ظهور استجابات الخوف المرضي في المواقف الاجتماعية لدى الأم، مثل الخوف من مواجهة الناس، أو الخوف من حضور مناسبات، أو حفلات، فهذا يتيح للطفل أنموذجاً يقلده. كل هذه الخبرات التي يمر بها الطفل، عادة ما يعود فيشعر بها من جديد إذا تعرض لنفس الظروف، ونفس المؤثرات، فمخاوف الطفولة تتجدد في الكبر إذا ما تعرض لموقف يثير خوفه مشابه لما تعرض عليه في السابق. كما أظهرت نتائج إحصائية أن نسبة كبيرة من المصابين بالرهاب الاجتماعي عوملوا بقسوة من قبل آبائهم في فترة الطفولة، وأن نسبة تقارب 90% منهم عانوا اعتداءً جسدياً بالضرب والتوبيخ في فتره الطفولة، مما زعزع ثقتهم بأنفسهم، وظهور تدنٍ في مفهوم الذات لديهم في مرحلة المراهقة. تلك الأساليب التربوية الخاطئة التي تقوم على أساس من التسلط الوالدي والقسوة في التربية وعدم زرع الثقة لدى الطفل كانت السبب الأبرز في الإصابة بالرهاب الاجتماعي لدى المراهقين، وتدني تقدير الذات لديهم في المستقبل.