في كل مرة أغادر تراب هذا الوطن المقدس، وأرى في الشاشة الصغيرة أمام المقعد أني على مقربة من مفارقة آخر ماء أو ثرى ،يتسلل إلى قلبي مرض الغربة مبكرا، حتى ولو كنت في رحلة سياحية قصيرة، كأن حبلا سريا يربط جنينا بأمه قد تصرم، يدفعني شعور بالالتفات قدر المستطاع للخلف من نافذة الطائرة لأتشبث بأطراف الوطن في نظرة مأسورة بحنين لشيء لم أغادره بعد، كل شيء يصغر إذا ابتعدت عنه، إلا الوطن كلما نأيت عنه زاد تعاظما، وتوهج بريقا، وكلما ارتقيت زاد بك وازددت به رفعة وكرامة، الوطن سنا في العين، وعشق في القلب، وإكليل على الهامة، ووسام يحيط بالعنق، ووشاح من الفخار على الصدور، وحزام يشد به الظهر، وسيفان، سيف يصد المتربص، ويؤخذ به في الحدود، وسيف نرقص به في عرضاتنا وأفراحنا. الوطن أمانة بأن نرعى الأمانة، وعهد بأن نصون العهود، وبيعة أجداد في رقاب الأحفاد لزمرة أفذاذ، نباهي بهم في صفحات العز والأمجاد، ووصية من الآباء للأبناء، أن يقتفوا أثر الجدود، فلا خيانة ولا حياد ولا صدود. الوطن حضن في الصغر، ومرتع مرح في الشباب، ومجلس وقار في المشيب، وقبر يضم الرفات بعد الممات. الوطن هو الحكمة في عدم الانقياد، لحثالة المرجفين والأوغاد، وهو القوة في مناهضة الظلم والفساد، وإيمان يملأ القلوب فتستجيب له الأجساد، الوطن أن تأنف وتأبى أن تكون ظالما، وأن تأبى وتأنف أن ترزح تحت نير الظالمين، الوطن هو حقوقك فتأخذها ولا تلين في طلبها، وواجبات تصونها وترعاها وتحسن في أدائها. وطني الكيان الذي يضيق ويضيق: فيكون (أنا)، ويتسع، فيكون كل الكون والأفق، وروح وعواطف وأديم يشع ولا يحترق، ننصهر ونجتمع في هذا المدار ولا نفترق. وكل 23 سبتمبر ويومكم سعودي أخضر.