من الملاحظ أن القنوات الفضائية والصحافة العالمية ذات الأداء المهني المتفوق، تقوم بتغطيات موسعة وشاملة للكوارث المتنوعة، من فيضانات وزلازل وحرائق وغيرها في أماكن مختلفة من العالم بالصورة والتفاصيل الإنسانية والأرقام المادية، وفي بعض الكوارث تتوسع التغطية لتستمر ساعات وأياماً في بثها الفضائي وعلى صفحات الجرائد. هذه الممارسة بالرغم من أهمية الجانب الإنساني الذي يبرز دور هذه المؤسسات الإعلامية الخيري في خدمة الضحايا، وتعريف العالم بكارثتهم، فإنها تكسب متابعين جدداً وتوسع من دائرة جماهيريتها. مقابل ذلك يختفي هذا الاهتمام الموسع في قنواتنا العربية وصحافتنا.. ومن النادر أن ترسل هذه القنوات مراسلين خاصين لهذه الكوارث، وأن تقوم بتغطيات خاصة، فتبدو التغطية عابرة، مجرد دقائق في آخر نشرات الأخبار مع صور من الوكالات. عدم اهتمام الإعلام العربي أدى إلى ندرة أو فقدان الكفاءات الإعلامية بمثل هذه المجالات، بالرغم من أهميتها الكبرى في أي مجتمع. صحافتنا السعودية جزء من هذه الثقافة الإعلامية العربية، حيث الاجتهادات العفوية والطارئة وعدم توفر الكفاءات الصحفية المتخصصة في التعامل مع الكوارث والحوادث الصغيرة والكبيرة. ربما نجد لهذه الصحافة الكثير من المبررات لعدم اهتمامها بالكوارث البعيدة جغرافياً، لكن في الكوارث والحوادث المحلية يبدو الأمر مختلفاً لأنها من أهم الواجبات الإعلامية التي تفرضها طبيعة المهنة. صحافتنا تواجه بين فترة وأخرى تحدي تغطية كوارث وحوادث مختلفة كالغرق والحرائق وحوادث المرور المفجعة وغيرها. تاريخياً لم تكن الصحافة غائبة عن نشر مثل هذه الأخبار، حتى في مرحلة الرغبة الرقابية في عدم التوسع في نشر الحوادث. كانت تغطية هذه الصحف محصورة في توفير بعض الصور ومعلومات أولية عن الحدث. لكن مع وجود إعلام جديد في نشره الفوري للصور بمواقع التواصل الاجتماعي واليوتيوب، أصبحت هذه الأحداث مادة للجدل والنقد الشعبي في المجتمع، وتثير -من ثم- الكثير من الغضب على بعض الجهات والمؤسسات. وجود هذا الإعلام الجديد أصبح يشكل ضغطاً على صحافتنا المحلية، وتحدياً يفرض عليها توفير العديد من الإجابات والتغطيات الفعالة بعيداً عن الاكتفاء بنقل التصريحات الرسمية، أو صور الحدث التي أصبحت متاحة في هذه المواقع. فمع الإعلام الجديد لم يعد للصحف تميز بالصور الأولية. يتذكر الكثيرون كيف استطاع هذا الإعلام توفير المئات من المقاطع والصور عن حادثتي جدة الأولى والثانية وانتشارها الواسع، والتأثير على الرأي العام. هذا الإعلام يمكن أن يكون مثيراً في سرعة تفاعله خلال دقائق وساعات من الحدث، وشفافاً في تغطيته بدون حواجز رقابية، ويمكن أن يقدم تفاصيل أولية ويعيق إمكانية التستر على بعض الحوادث، لكنه إعلام عشوائي، ربما يثير بعض اللغط والغضب والتشويش في جوانب بعيدة عن حقيقة وطبيعة الأزمة. إنه فعال جداً في إثارة المتلقي مباشرة وتبليغه بما حدث، لكن دوره في المراحل التالية يضعف كثيراً في قدرته على صناعة رؤى متكاملة عن بعض إشكاليات التنمية وقضايا الفساد. في السنوات الأخيرة تطورت الصحافة في تناولها أخبار الكوارث، وبدأ الاهتمام بها لتكون على صدر صفحاتها الأولى في حالات كثيرة، مع توفير العديد من الأخبار الخاصة والحوارات واللقاءات مع شهود العيان، وتشعر الصحف حالياً بأهمية هذا المجال في التنافس مع الصحف الأخرى، لكن يغلب على هذا الاهتمام الجانب المثير في الحدث، وتغطية البعد المأساوي والإنساني في الكارثة، دون وجود رؤية منهجية للدور الذي يجب أن تقوم به. تنشر الصحف بعد كل حدث تصريحات الجهات المسؤولة عن هذه الكارثة أو تلك لتدافع هذه الجهات عن نفسها، وفي الوقت نفسه تنشر العديد من المقالات في صفحات الرأي، التي تنتقد هذه الجهات، وأحياناً تتحول هذه المقالات إلى ما يشبه الحملة ضد ما ترى أنه مغالطة في هذه التصريحات، ويغلب على هذا النقد الرؤى الانطباعية أكثر منها نقداً محدداً بمعلومات ومعطيات خاصة. ليطلع المجتمع على حقيقة الخلل الذي وقعت فيه هذه الجهات. تفتقد الأعمال الصحفية المحلية الرؤية والقدرة على تحديد ما هي الأسئلة التي يجب أن تبحث عن إجابات صحفية حول الكوارث حتى لو تأخرت في الحصول عليها. في حادث حريق مدرسة «براعم الوطن» في جدة تكررت المشكلة نفسها. الإعلام الجديد حضر بقوة منذ الساعات الأولى.. تضاربت الأقوال وارتفعت حدة النقد والغضب على أكثر من جهة. يغلب عليها الانطباعات والهجوم المكرر على جهات محددة، دون وجود رؤية مكتملة للحدث سوى التصريحات التقليدية باستكمال التحقيقات الرسمية. هنا يأتي السؤال: كيف يصنع الصحفي قصة كاملة للحدث، ويجمع خيوط المشكلة وبعض المعلومات الغائبة أو المغيبة ليس من أجل إدانة هذه الجهة أو ذلك المسؤول، وإنما لصناعة مادة صحفية تكون مرجعاً للكثيرين لسنوات طويلة، وأيضاً تُوجد وعياً اجتماعياً بهذه الكوارث وأسبابها. فمثلاً في تقييم أداء الدفاع المدني في هذه الحادثة: لا يتوقف عند المعلومات الأولية، وعليه أن يبحث عن أكثر من رواية وشاهد: متى بدأ الحريق؟. ومتى وصل البلاغ إلى الدفاع المدني؟. متى استطاع الوصول إلى مكان الحدث؟. كم المسافة التي قطعها، ونوعية الزحام المتوقعة في ذلك التوقيت؟. هل كانت استعدادات ومعدات الدفاع المدني مكتملة في تلك اللحظة؟.. وغيرها من التفاصيل. أدرك وجود الكثير من الصعوبات والتحديات التي تواجه الصحف والصحفي الميداني في السعودية، لكن وجود تصورات أساسية وخارطة مهنية للعمل سيجعل هذه الصحف تقدم خدمة كبيرة للمجتمع في تجاوز بعض أخطاء التنمية.