لا جدال في أن أول من أقحم العقيدة الإسلامية في السياسة هم الخوارج، وبالطبع فإن إقحام العقيدة في السياسة ممارسة بشرية سبقت الإسلام، وتنوعت تجاربها بحسب اختلاف دين وسياسة كل أمة. ولعل أشهر تجربة إنسانية أقحمت فيها العقيدة بالسياسة كانت في الوسط المسيحي عندما افترقت الأمة المسيحية سياسيا، وبالتالي كان الكل يبحث عن شرعية دينية تؤيد موقفه، فعزفت سيمفونية التكفير! وانقسمت المسيحية إلى فرقتين عظيمتين الكاثوليك (المذهب العام) والأرثوذكس (الرأي القويم)! أما لدى الخوارج، وحتى ندرك سهولة الموضوع بالنسبة إليهم، يقال إنه كان ثلاثة من رؤوس الخوارج يناقشون أمر علي ومعاوية، فقال الأول، ولعله يُعد ليبراليّهم: أموالهم حلال دون دمائهم، فغضب الثاني وقال: بل حتى دماؤهم، فتدخل الثالث… واحتد النقاش، وانتهت «حفلة التكفير» بتكفير كل واحد منهم لصاحبيه! فافترقوا، كل واحد منهم على رأس فرقة. ولعل الجميع لاحظ أن الاختلاف السياسي، الذي حدث في صدر الإسلام كفتنة مقتل عثمان، وما كان يحدث عند كل بيعة لأحد الخلفاء الراشدين، لم يستدع فيه موضوع العقيدة! بل كانت مداولاتهم تحت قبة الإسلام، أما بعد ما أصبح الأمر بالمجالدة، وتسربت السياسة إلى العقيدة، وجلبتها إلى ميدان الصراع البشري، أصبح التترس بالعقيدة، ورمي المخالفين عقديا البضاعة الرائجة. والمؤسف أن مؤرخي المسلمين وفقهاءهم انطلت عليهم هذه البضاعة المزجاة، وكرسوا هذا التاريخ الذي زيفته السياسة، لذا من الطبيعي أن تجد كبار المعارضين وقد عرف أحدهم في كتب التراجم والسير بأنه «ضال مبتدع»! وقد يلاحظ أن من يخرج ثائرا شاهرا سيفه لا يحتاج إلى جهد عقدي يُذكر، كون خروجه مسوغا للفتك به، لكن التهم العقدية لا تطال إلا المنظرين الذين يفككون الشرعية الزائفة، ولعل من المثير أن يذكر أن الحسن البصري، رمي بالقدرية لأنه تصدى للجبر الأموي! والجعد بن درهم، الذي ضحي به، كان معارضا للظلم وهو من هجا الحجاج بقوله: أسد علي وفي الحروب نعامة، فتخاء تنفر من صفير الصافر. ومعبد الجهني، الذي روى عنه قتادة وغيره، الذي صلبه عبدالملك، هو الآخر معارض ومنكر للظلم، وقال عنه مالك بن دينار: لقيته بمكة وهو جريح قد قاتل الحَجاج في المواطن كلها. والجهم بن صفوان، قتل ثائرا مطالبا بني أمية بالعدل، وغيلان الدمشقي، كان في الأصل موضع ثقة عمر بن عبدالعزيز، إذ ولاه بيت مال المسلمين، وأخذ يوزع جوارب بني أمية الحريرية على الفقراء مرددا: «إلى متاع الظلمة». هؤلاء هم أبرز المعارضين الذين نكفرهم اليوم! وهم في الحقيقة، وإن أسهبوا في التأول، لا يعني أن كل ما نسب لهم قد صح عنهم بالضرورة. بل حتى كلامهم في صفات الله وأفعاله كان من باب التنزيه لا أكثر؛ ردا على نسبة الأمويين ظلمهم إلى قدر الله. ابحثوا في التاريخ وإذا وجدتم شخصا كتب أمامه «ضال مبتدع» قفوا وفتشوا عن موقفه السياسي!