كان الخوارج قد وضعوا الضمير المسلم أمام أزمة خطيرة جراء تصنيفهم الناس وفق سُلَّم»عقدي» ثنائي القيمة، عبَّر عنه الدكتور محمد عابد الجابري بمبدأ:»إما......وإما»، إما أن يكون الفرد»مؤمناً» باتباعهم على منهجهم القاضي ب»تكفير» كل من رضي بالتحكيم يوم صفين، وعلى رأسهم الأمويون وأشياعهم، وبضرورة «الخروج» معهم (الخوارج) لمقاتلة»القرية الظالمِ أهلها». وإما أن يكون«كافراً» بالرضا ب»شرعية»أي طرف من أطراف التحكيم.وهنا طرح الخوارج،ولأول مرة في التاريخ الإسلامي،مسألة»تكفير» المخالف، التي لابد وأن يقابلها نقيضُها المتمثل بمسألة»إيمان» الموافق.فأصبح الناس،وفقا للمنهج»الخوارجي» إما «مؤمن» وإما»كافر». وقبل ذلك،أصبح تحديد معنى أي من مفهومي «الكفر والإيمان» ينطوي،بالضرورة، على موقف سياسي،مع أو ضد. يؤكد الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه:( العقل السياسي العربي) على أن:»قضية الإيمان في العصر الأموي كانت ذات مضامين سياسية، وكان الخوارج هم الذين جعلوها كذلك. إذ كانوا يقولون إن العمل،أي تطبيق أوامر الشرع ونواهيه،بما ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما فهموه، شرط في الإيمان. بينما كان أنصار الأمويين يجعلون الإيمان هو فقط الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله.أما تطبيق أوامر الشرع واجتناب نواهيه، فليس عندهم من الإيمان،فقد يرتكب المسلم ذنوباً،حتى الكبائر منها،ومع ذلك يبقى في عداد المؤمنين. وهذه وجهة نظر كان الهدف منها الإبقاءَ على الخلفاء الأمويين المتهمين بالظلم والفسق في دائرة الإيمان، وبالتالي عدم جواز الثورة عليهم». إذاً،كان هدف استلاب الوعي الجماهيري لصالح مشروع الثورة على الأمويين هو الدافع الأساس لجعل الخوارج العملَ شرطاً في الإيمان. بينما،من جهة أخرى،كان هدف إيجاد سند»ديني»لعدم جواز الثورة عليهم(الأمويين) هو الدافع الأساس لسعي الأمويين وأشياخهم لتجريد الإيمان من شرط العمل.وهذا يعني،كما ألمحنا آنفا، أن طرح مسألة»تكفير» المخالف بالمذهب كان إفرازاً لصراع سياسي بحت لا علاقة له بالدين في أصله المقدس، وفي حياضه(=الصراع السياسي) البراغماتية تَكوَّن مفهوم»الفرقة الناجية!». كان الموقف السياسي الملتحف بلحاف «الدين» يتحدد من خلال التساؤل التالي:هل يكفي في»الإيمان» الإقرارُ باللسان، بدون الالتزام بما يترتب عليه(الإيمان) من أوامر الشرع ونواهيه،وهو المفهوم الذي يعفي الأمويين من المحاسبة عما ارتكبوه وسيرتكبونه مستقبلا من مظالم. أم أنه لا بد وأن يترتب عليه اتباع لأوامر الشرع ونواهيه،بما فيها،بل وعلى رأسها،قيم الشورى والعدل،وبالتالي»تكفير»من يقتصر على الإيمان باللسان فقط: (الأمويين وأنصارهم)، ومن ثم وجوب الثورة عليهم؟. ثمة قبائح كثيرة ارتكبها الأمويون،ألَّبت عليهم معارضين سياسيين مختلفي التوجهات والمشارب. قبائح من قبيل:النزو على الحكم عنوة من دون مشورة أهل الحل والعقد من المسلمين، وإلغاء الشورى،والاستبداد الاجتماعي والاستئثار بالثروة وظلم الرعية، وتوطين القيم الكسروية في المجتمع الإسلامي. وكان لا بد للصراع السياسي معهم حول تلك القضايا أن يكتسي جدلاً»دينياً» مضمونه:هل يتوجب على الأمويين،لكي يكونوا في عداد المسلمين،أن يكونوا شورويين،مستعدين لتداول السلطة كما كانت عليه الحال أيام الراشدين، غير مستبدين، عادلين في توزيع الثروة على الناس،أم يكفي في»إيمانهم» الإقرار بالشهادتين وحدهما بالشكل الذي لا يرتب عليهم(= الأمويين) أية التزامات تجاه رعاياهم؟. ولأن الصراع السياسي،حينها، كان لابد وأن يغلف بغلاف»ديني» وإلا فقد مضمونه الداعم،فقد استمر الجدل في مسألتي»الكفر والإيمان»،فيما بعد،إلى أن انتهى به المقام ليتحول من جدل سياسي إلى امتحان عقدي يحاسب، بموجبه، الفرد المسلم، بل ويهدر دمه تبعاً لتحديد موقفه من كل من تلك المسألتين،وفقاً للتعريف الذي أُلبِستْه كلتاهما، والمتولد أساساً من رحم المصلحة السياسية، وبالذات التعريف الذي كان يخدم مصلحة الطرف المنتصر في ذلك الصراع السياسي وما تلاه من صراعات سياسية لاحقة. كانت ساحة الصراع السياسي لا تجمع في إهابها،في البداية، إلا طرفين فقط هما:الأمويون والخوارج، وكان لكل منهما أيديولوجية سياسية،ف»الجبر» للأمويين، و»التكفير» للخوارج، ومع استمرار الصراع السياسي الأموي/الخوارجي تهيأت الفرصة لنشوء تيار فكري سياسي ثالث ليس مع الأمويين في استبدادهم وظلمهم للناس، لكنه، من جانب آخر، ليس مع الخوارج في حبسهم أنفسهم ومن معهم في ذلك الموقف الضيق الذي قوامه ثنائية:» الكفر والإيمان» حسب فهمهم للمسألتين.هذا التيار التنويري كان يحمل على كاهله توطين الحريات الفردية والاجتماعية و»دمقرطة» الحكم.ولأجل ذلك، فقد أخذ على عاتقه ضرورة محاربة كل من أيديولوجية»الجبر» الأموي، وأيديولوجية»التكفير»الخوارجي معاً. كان(غيلان الدمشقي)،الذي تضعه مصادرنا في خانة المبتدعة الضلَّال، وتُمجِّد صنيع هشام بن عبد الملك في قتله إيَّاه شر قِتلة، بقطع يديه ورجليه ولسانه قبل الإجهاز عليه،من أبرز المعارضين السياسيين الذين تزعموا حملة فكرية قوامها:معارضة «الجبر» الأموي، وما ينطوي عليه من تعريف للإيمان يجرده من مضامينه الأساسية، وكذلك معارضة»التكفير الخوارجي»وما ينطوي عليه من حبس للناس في زاوية ضيقة لا تتسع لأي رأي مخالف. والسؤال هنا هو:ما هي ملامح المشروع الفكري الذي كان ينطلق منه غيلان،أحد أبرز ممثلي التيار التنويري الجديد؟. نجد ملامح هذا المشروع واضحة عند ثلاثة من أبرز علماء الملل والنحل:ابن المرتضى:( 775-840ه )، وأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني(479 548 ه) وأبي الحسن الأشعري:( 270 324 ه).حيث تحدث الأول في كتابه: ( المنية والأمل)، والثاني في كتابه: ( الملل والنحل) عن المشروع الفكري ل»القدرية»،في جانبه الأول الموجه للأمويين، بإبراز ابن المرتضى للنص الشهير المنسوب لغيلان الدمشقي والموجه للخليفة عمر بن عبدالعزيز، والذي مضمونه التالي:» أبصرت يا عمر وما كدت، ونظرت وما كدت.... فإنه تعالى لا يقول: تعالوا إلى النار، إذاً لا يتبعه أحد. ولكن الدعاة إلى النار هم الدعاة إلى معاصي الله . فهل وجدت يا عمر حكيماً يعيب ما يصنع ،أو يصنع ما يعيب ،أو يعذب على ما قضى، أو يقضي ما يعذب عليه،أم هل وجدت رشيداً يدعو إلى الهدى،ثم يضل عنه، أم هل وجدت رحيماً يكلف العباد فوق طاقتهم، أو يعذبهم على الطاعة ،أم هل وجدت عدلاً يحمل الناس على الظلم والتظالم، وهل وجدت صادقاً يحمل الناس على الكذب أو التكاذب بينهم؟». وإبراز الشهرستاني للمضمون الأيديولوجي للمشروع الفكري للفرقة الثوبانية، التي ينتمي إليها غيلان، بأنهم،»اتفقوا على أن الله تعالى لو عفا عن عاص يوم القيامة عفا عن كل مؤمن عاص هو في مثل حاله،وإن أخرج من النار واحداً أخرج من النار من هو في مثل حاله».أي أنه تعالى إذا غفر للأمويين قبائحهم،فإنه تعالى، بعدله، سيغفر لكل من هو في مثل حالهم.(لاحظ المغزى السياسي لتلك المسائل التي ألحق ب»العقائد» قسرا). أما الجانب الثاني من المشروع، والموجه ضد أيديولوجية»التكفير»الخوارجي، فنجده فيما يقوله أبو الحسن الأشعري في كتابه: (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) عن الغيلانية بأنهم :»... أصحاب غيلان يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله الثانية والمحبة والخضوع والإقرار بما جاء به الرسول وبما جاء من عند الله سبحانه ،وأن الخصلة من الإيمان لا يقال لها إيمان إذا انفردت، ولا يقال لها بعض إيمان إذا انفردت، وأن الإيمان لا يحتمل الزيادة والنقصان». والقارئ الكيِّس الفطن لا يفوته أن يستنبط مما تقدم أن التكفير، كتهمة ترمى في وجه المخالف بالرأي، بدأ سياسياً،حين ألبسَه كل طرف من أطراف الصراع،آنذاك، اللباس السياسي الذي يلائم مصالحه البراغماتية. وانتهى «عقدياً» يُغتال به الفكر الحر منذ ذلك التاريخ وحتى الآن. وأن الفرق»العقدية» على اختلاف مسمياتها ومضامينها العقدية، كانت،في أساس نشأتها، عبارة عن أحزاب سياسية تمارس السياسة في الدين، والنتيجة المترتبة على ذلك،أن تهم: التكفير والزندقة والرمي بالضلال التي كانت كل فرقة ترمي بها الأخرى، كانت عبارة عن تراشق سياسي بينها، تدثر برداء»الدين»، وأن الهدف من ذلك (التراشق) كان محاولة من كل طرف لإطِّراح خصمه خارج حلبة الصراع السياسي. وهو ما يؤكد أن نشأة المذاهب»العقدية» في الإسلام كان ذا جذور سياسية بحتة. والمؤلم حقاً أننا إذ نُكفِّر بعضنا بعضاً بتراث»عقدي» نحسبه ديناً منزلاً من عند الله تعالى، لا نعي أننا لسنا أكثر من حراس أمناء على إرث سياسي تلبس لبوس الدين. (يتبع)