يوم الأربعاء الموافق 5 سبتمبر 2012م نقلت صحيفة الجاردين البريطانية ما ورد في تقرير لمجموعة سيتي جروب العالمية من أن المملكة العربية السعودية إذا لم تغير من نمط استهلاكها المحلي للنفط فإنه لن يبقى لها من النفط ما تصدره في العام 2030 م. صحيفة الشرق في اليوم التالي الخميس 6 سبتمبر نوهت بعنوان رئيسي على صفحتها الأولى أن (خبراء بترول محليون يشككون في تقرير سيتي جروب..) وأوردت على الصفحة 17 تفصيلا لما يقوله الخبراء ورد فيه: «قلل خبراء نفط محليون من تقرير أصدره سيتي جروب يشير إلى تحول المملكة العربية السعودية إلى مستورد للنفط بحلول عام 2030م. وقال الخبراء إن المملكة العربية السعودية تمتلك احتياطات نفطية هائلة تمكنها من الاستمرار في تصدير النفط لسنوات طويلة مشيرين إلى أن هذا التقرير مبالغ فيه لكنه يحذر من الارتفاع المفرط في استهلاك الطاقة محلياً».أنا أختلف مع رأي الإخوة الخبراء كما أوردته الصحيفة ومفاده أن التقرير مبالغ فيه وأن المملكة تمتلك احتياطيات نفطية هائلة تمكنها من الاستمرار في تصدير النفط لسنوات طويلة. هذه المقولة من الإخوة الخبراء مؤداها الاقلال من أهمية تهميش ما أورده تقرير سيتي جروب من خطورة أن يلتهم الاستهلاك المحلي للنفط جل ما تستخرجه المملكة في العام 2030م. وعندها لن يبقى للمملكة ما تصدره من النفط وتعيش على إيراداتها منه إن بقيت الأمور على حالها.قد يختلف المحللون والمختصون في اقتصاديات البترول في تحديد العام الذي يبتلع استهلاكنا المحلي كل ما نستخرجه من النفط، فالاختلاف في هذا المجال وارد نظرا للمتغيرات المتعلقة باستكشاف واستخراج النفط. القدرات الفنية في تقدير حجم المتاح والقابل للاستخراج من النفط متطورة جدا إلا أنه يظل هناك مجال لاختلاف التقديرات. لكن الدراسات والتقارير تشير أيضاً إلى أن الاكتشافات الكبيرة من حقول النفط في المملكة العربية السعودية قد ولى زمانها فقد تم البحث في كل الأماكن والمواقع المحتملة إضافة الى أن الآبار القديمة والعملاقة بدأت مكامنها البترولية تضعف وتقل.ما شدني للرد على التشكيك في جوهر النتيجة التي وصلت إليها دراسة سيتي جروب والتي وصلت إليها كما سأذكر لاحقا دراسات عديدة سابقة هو الخطر الكامن من الاستمرار في استهلاك النفط محليا على الاقتصاد السعودي وبالتحديد على قدرة الدولة في تمويل نفقات الميزانية عندما يضمحل حجم الصادرات النفطية التي تعد المصدر الرئيسي لإيرادات الدولة والتي بلغت نسبتها من إيرادات الميزانية لهذا العام 2012م (93%). هنا بعض النقاط التي يجب الإشارة إليها: – معدل الاستهلاك المحلي من النفط الذي بنيت عليه كل الدراسات بما فيها دراستي حقائق إحصائية وثّقت وعلى مدى أعوام كثيرة هو معدل من أعلى المعدلات في العالم. – حجم الاحتياطي السعودي من النفط القابل للاستخراج معروف إلى حد كبير رغم اختلاف التقديرات فيما يتعلق بعمره الزمني ما بين خمسين إلى مائة عام والمرجح حسب الحالة الفنية الراهنة هو خمسة وسبعون عاماً يضاف إلى ذلك أن التوقعات المتعلقة في اكتشاف حقول جديدة ضئيلة. – الآن إذا افترضنا كما افترضت هذه الدراسة والدراسات التي سبقتها بقاء الأمور على حالها، أي أن الحكومة لم تتخذ من السياسات الاقتصادية والسعرية ما يحد من استهلاك النفط محلياً فإنه في سنوات معدودة سيصل الاستهلاك المحلي للنفط إلى مستويات عالية تستحوذ على كل أو جل النفط المستخرج وبذلك لا يبقى شيء للتصدير. قد نختلف في تحديد سنة بذاتها لهذا الحدث بحكم طبيعة المتغيرات في هذه المعادلة إلا أنه يبقى من المؤكد إحصائيا وجيولوجيا أن الاستهلاك المحلي للنفط سيستحوذ على جزء مهم وكبير من النفط المستخرج مادامت معدلاته في تزايد كما هو ثابت إحصائيا على مدى السنوات الماضية وإذا بقيت الأمور أيضاً على حالها. – هناك نتيجة أخرى على درجة كبيرة من الأهمية لم تتعرض لها الدراسات السابقة ستنشر في دراسة بحثية أكاديمية في مطلع العام المقبل 2013م. وهي أنه إذا استمر الحال على ما هو عليه فإن الحكومة التي تعتمد اعتمادا شبه كلي على إيراداتها من تصدير النفط لن تكون قادرة على تمويل مصروفاتها في الميزانية في العام 2030م حسب فرضيات الدراسة، حتى وإن استدعت كل احتياطياتها المالية وستواجه عجزاً مالياً كبيراً إذا تراكم وكبر سوف يؤدي الي أزمة مالية حكومية كبيرة جدا.أعود مرة أخرى إلى نقدي للمقولات التي تشكك أو تخفف من احتمال انخفاض الصادرات النفطية بسبب زيادة استهلاكها المحلي وهنا أبرز أمرين: الأول: إن النتيجة التي توصل إليها تقرير سيتي جروب وما سبقه من دراسات وقعها على الاقتصاد السعودي ومستقبله الاقتصادي خطير إن صح التوقع، لذلك فإنه انطلاقا من خطورة الأمر وأثره السلبي فإنه لابد لنا من التروي والحذر من التشكيك والتخفيف من الأمر ما لم تكن لدينا دلالات شبه قطعية بعدم صحة الاستنتاج والتوقع. ولا أعتقد أن مطلعا على الأمور وعارفا بحال الاقتصاد السعودي ونفطه لا يأخذ ما توصلت إليه الدراسات في هذا الخصوص على محمل الجد. ثانيا: كما أشرت سابقا فإن دراسات سبقت دراسة سيتي جروب وصلت إلى نفس النتيجة بشكلها العام. هذه الدراسات هي : أ- دراسة Chatham house. في ديسمبر 2011م Burning oil to keep cool , the hidden energy crisis in saudi Arabia تشير الدراسة إلى إن الاستهلاك المحلي للنفط في المملكة إذا استمر على هذا المعدل فإنه سوف يحد من إمكانية المملكة لتصدير النفط خلال عقد من الزمان. ب-Matt Simmons Jun 2005 Twilight in the desert : the coming Saudi oil shock and world economy هذه الدراسة رغم أنها لم تتعرض للاستهلاك الداخلي من النفط بشكل مباشر إلا أنها ركزت على موضوع حجم الاحتياطي النفطي المتوفر وشككت في قدرة المملكة على الاستمرار في تصدير النفط. ج- Dermot gately, Norah al-Yousef and Hamad m.The rapid growth of OPEC,s Domestic oil consumption ,Aug.13 2011 هذه الدراسة التي أعدها البرفسور الزائر لجامعة الملك سعود مع زميلين سعوديين من جامعة الملك سعود هما البرفسورة نورة اليوسف والبرفسور حمد آل الشيخ تطرقت للموضوع ولكن تحت غطاء أوبك. والمملكة إحدى دول الأوبك، وقد وصلت الدراسة إلى نفس النتائج وهي أن النمو المتواصل في استهلاك خام النفط محليا سوف يحد من قدرة دول الأوبك على التصدير. د- تقرير صندوق النقد الدولي السنوي عن المملكة العربية السعوديةSaudi Arabia : 2011 Article IV consultation. Sep 2011 في الصفحة 16 يقول التقرير، «إن رفع أسعار المنتجات البترولية المحلية والتي هي الأقل في العالم إلى المعدلات في الدول المصدرة للبترول في الشرق الأوسط.. سيساعد على احتواء النمو المتزايد في استهلاك الطاقة المحلي الذي حسب نموه الحالي وفي ظل غياب استثمارات جديدة في التنقيب سيؤدي قريباً إلى الحد من قدرة المملكة على تصدير النفط.البحوث والتقارير في هذا المجال كثيرة لمن يريد أن يبحث عن الواقع كما هو ويستشرف المستقبل تأسيسا على هذا الواقع ومعدلات حركته المستقبلية. حسب قراءتي ورؤيتي المهنية فإن مستقبل الاقتصاد السعودي المتوسط والبعيد المعتمد بشكل شبه كامل على النفط في خطر إذا استمر الحال على ماهو عليه الآن. ختاما أقول إن المعنيين بشكل مباشر في إدارة هذه القضايا الاقتصادية المهمة ذات العلاقة بمصير الأمة ومستقبلها هم وزراء البترول والمال والتخطيط. وهم ملزمون بالإجابة على تساؤلات واستفسارات المواطنين فيما يتعلق بقضاياهم الاقتصادية الآنية والمصيرية.