«فليجتمع المثقفون جميعا حول مبدأ واحد، وهو الحرية. لأن الثقافة لا تكون إلا بالحرية. فلنترك جميع خلافاتنا جانبا، ونتفق على رفع راية الحرية عالية في وجه جميع أشكال العنف والعدوان».. هذا ما أملاه نجيب محفوظ على أحدهم لتكون رسالته للمثقفين بعد حادث محاولة اغتياله الآثمة عام 1994. أكاد أسمع صوته مرتعشا وواثقا في آن. أكاد أسمعه يطالبنا أن نتخلى عن ترهاتنا وخلافاتنا واختلافاتنا النظرية، أن نتخلى عن الهاملتية اللعينة التي تضع يدها ثقيلة على معظم المثقفين في مصر وفي غير مصر، حتى لتكاد ترى حركتهم مشلولة من فرط التنظير والتعقيد والتفكير والتساؤل وإعادة التساؤل. صحيح أن كل ذلك دليل حيوية، ولكن مَن قال إن أعداء الثقافة سوف ينتظرون هذه الحيوية النظرية حتى تتحول إلى فعل؟! أقول ذلك بينما يطاردني ويطارد كثير من المثقفين السؤال الأكثر إحراجا: لماذا لا تتوحدون؟. وبقدر ما يمثل هذا السؤال حرجا كبيرا وبقدر ما ينكأ جرحا قديما حديثا بقدر بساطة الإجابة عنه: نحن لا نتوحد لأننا فيما يبدو عقلانيون أكثر مما ينبغي!. عقلانيون للدرجة التي لا تسمح بمزيد من العقل لكي نتوحد. المثقف بالطبيعة متشكك، هذا هو للأسف جوهر العقلانية. أن تكون عقلانيا معناه أن تكون متشككا في كل الحلول التي تبدو ممكنة، لأنك تعرف أو لأنك متأكد أن العقل محدود وأن ما يهديه إليك عقلك ليس أفضل الحلول ولكنه أفضل الحلول في هذه اللحظة، وحسب المعطيات التي أمكنك التواصل معها. فكيف يمكن أن تجمع جماعة من المتشككين على موقف مشكوك في صحته، ومختلف عليه بين الجميع. هذا فيما يمكن جمع هؤلاء الذين لديهم اليقين في أن المعرفة في النصوص كاملة، وواضحة، ولا لبس فيها، ولا شك في تأويلها على موقف واحد، لأنهم في النهاية يجمعهم اليقين أنهم على الموقف الصحيح والمجمع عليه. هؤلاء ليس لديهم أدنى شك في أن موقفهم هو الحق بعينه، فقد أوحى لهم يقينهم أن ما يتحدون عليه هو أصل الأشياء وفطرتها ومبتداها ونهايتها. هؤلاء ليس عليهم أن يشغلوا عقولهم فالأسهل دائما على الشخص الكسول أن يتخذ الموقف ذاته الذي اتخذه أسلافه، أو الموقف ذاته الذي اتخذه مجايلوه، أو الموقف الذي بدا أن الجميع من حوله يتفقون عليه. هؤلاء الكسالى لديهم مزية أنهم لا يشكّون في وجود بدائل لموقفهم، فكل البدائل باطلة، وهم وحدهم البديل الأول والأخير. هكذا تفقد العقلانية أصحابها مزية التوحد، فيما يدفع الكسل العقلي الآخرين إلى الاجتماع على موقف موحد. خصوصا وأن الآخرين غالبا ما ينظرون نظرة الارتياب لهؤلاء المتشككين، فهؤلاء في عقيدة الكسالى يتربصون بهم وبيقينهم وباحتمائهم في أحضان جماعتهم، بل ويسخرون منهم دائما واصفين إياهم بأنهم محض قطيع يستسلمون لعصا الراعي التي توجههم الوجهة التي تريد، وتحميهم ثقتهم في الراعي أو الإمام من الشك. أقول ذلك لأن الزمن يبدو ملائما ليس في مصر فحسب لأن يكون زمن الكسالى، فالقرن الماضي سمي بقرن اليقين، وهو فيما يبدو مرشحا لأن يستمر فترة من الوقت إلا إذا تمكن المثقفون من الانخراط فيما يعرف في الدول الحديثة ب «الجماعة الثقافية»، أي الجماعة التي تسعى لصياغة مشروع مشترك، مشروع يكون هو وبقاؤها أي هذه الجماعة مشروطا كلا منهما بالآخر. مشروع تدرك الجماعة أن لا استمرار لوجودها إلا به. ولن يحدث ذلك إلا على سبيل الخطوة الأولى بفصل التوأم الملتصق وأقصد به المثقف ووزارة الثقافة. فالمثقف التقليدي يلتصق بوزارة الثقافة في بلده ويمارس نشاطه الثقافي من خلالها وتتولى الأخيرة حمايته في بعض الأحيان فيما ترفع يدها عن حمايته في أحيان أخرى، حسب درجة الرضا وحسب الظروف السياسية وعلاقتها بالقوى الأخرى في المجتمع. الجماعة الثقافية المستقلة عن وزارة الثقافة هي الوحيدة القادرة على فرض سقف الحريات المناسب وعلى حماية أفرادها وعلى استدراك المجتمع لإعادة تحريك تربته الثقافية وتقليبها. لهذا تكون الفقرة التي اقتطعتها من كلام عميد الرواية العربية نجيب محفوظ مهمة في هذا السياق، فهي تناشد المثقفين تأجيل خلافاتهم الفكرية، وتنحية شكوكهم، والتوحد على يقينهم المشترك. يقين أن الإنسان كائن حر، خلقه الله حرا، ليمارس حريته عبر العقل للوصول إلى الحقيقة بدلا من الاستسلام للشائع وللمتواتر. وهي أيضا تناشد المثقفين أن يتوحدوا للدفاع عن قيمة الحرية، لهم ولخصومهم، لهم وللكسالى أيضا، لأن تحرير الإنسان بإزاء ذاته وبإزاء حياته هو المفتاح لتحديد إقامة العنف والتطرف.