في مشهدنا الأدبي والثقافي، العربي بشكل عام والسعودي - الخليجي بشكل خاص، تكثر الصفات والتوصيفات وتتأرجح التصنيفات والأدوار، فيكثر «الروائيون» ذوو الرواية الواحدة المبتدئة والشعراء ذوو الديوان والديوانين المتواضعي المستوى، وتمتلئ الساحة بالمفكرين ذوي المقالات البسيطة والأطروحات السهلة والعادية بل والمكررة حتى الإملال، فنجد أنفسنا أمام مشهد هو في حقيقته مرآة للمستوى المتواضع الذي وصل إليه المستوى التعليمي والبحثي وتتصف به مجمل صفحاتنا الثقافية وملاحقنا الأدبية وما يهيمن على خطابنا الثقافي من ضعف في قيم الضبط والدقة والرصانة. فالطريق ما زال طويلاً طالما أن مثل الصفات والتسميات التي ذكرت تسبغ إسباغاً مجانياً لتتزين به صور من يسعدون بما غمروا به فيصدقونه. في هذا الخضم وفي ثنايا هذا التأرجح والفوضى تبرز صفة «المثقف» بوصفها الأكثر حظاً من الانتشار وسهولة التوزيع، فهي، مثل «المفكر»، صفة من لا صفة له، من يصعب تصنيفه في خانة الدكاترة أو الشعراء أو النقاد أو الروائيين أو غيرهم. اتضح ذلك بشكل فاقع أثناء الانتخابات التي عمت الأندية الأدبية على مدى أشهر عدة لتصبح صفة «مثقف» الأكثر تواتراً لنقرأ عن المثقفين والمثقفات بكثافة تسترعي الانتباه، فيقال، مثلاً، فاز في انتخابات النادي الفلاني سبعة مثقفين وثلاث مثقفات أو ما زاد على ذلك أو قل. ولم يأت ذلك من فراغ، كما هو معروف، فصفة الثقافة قد تكون نتيجة لليأس من إمكان التوصل إلى حل للإشكالية المتمثلة بتحديد مفهوم الثقافة أصلاً والقدرة على استيعاب ذلك المفهوم وليس فقط من يوصف بصفة مثقف. ويكتسب الأمر أهمية وطرافة في الوقت نفسه في ظل الاستقرار النسبي لمفردات مشابهة أو موازية أخرى مثل «كاتب» و«أديب». وسيبدو الاستقرار الدلالي أوضح ما يكون لو قارنا مفهوم «مثقف» بمفهوم شائع في الخطاب الاقتصادي والاجتماعي مثل «رجل أعمال»، وذلك حين نطرح السؤال: من هم أعضاء مجلس إدارة الغرفة التجارية مقارنة بأعضاء مجلس إدارة النادي الأدبي؟ سنقول رجال أعمال في الحالة الأولى ونحن على ثقة من دقة الدلالة، ثم نقول مثقفين في الحالة الثانية ونحن أقل ثقة بكثير من دقة الدلالة. الانتماء إلى الثقافة ليس بوضوح الانتماء إلى الأعمال على رغم أن مفردة «أعمال» ليست هي الأخرى بالغة الوضوح. الأعمال تتضمن التجارة ومن ينتمي إليها يعد تاجراً، وهذا تحول دلالي لافت من رجل أعمال إلى تاجر، إذ لم تعد مفردة «تاجر» مقبولة لدى الكثيرين، وقد يكون ذلك متصلاً بتحولات اجتماعية أخرى لكن هذا ليس مكان التوسّع في هذا الاتجاه. ضبابية الدلالة في مفردة «مثقف» ليست بالتالي حكراً على هذه المفردة، ولذا فالتحليل الأكثر عمقاً سينظر في تلك الضبابية بوصفها جزءاً من ظاهرة. وهنا لا بد من الاكتفاء ببعض ما يمكن الخروج به، فلا مجال للتوسّع والتنظير، ومن ذلك أن «مثقف» ليست ترجمة دقيقة للمفردة الأجنبية التي من المرجح أن تكون جاءت لتكون ترجمة لها وهي «إنتِلِكتشوال» سواء في الإنكليزية أو الفرنسية أو لغات أوروبية رئيسية أخرى كالألمانية والإسبانية. فهي مفردة مستجدة على اللغة العربية، تماماً مثل «ثقافة» بمعناها المعاصر. فحين يشار في مجمل النصوص الأجنبية إلى «الإنتلكتشوال» فان المقصود هو غالباً من نسميه المثقف، فكتاب إدوارد سعيدRepresentations of the Intellectual، مثلاً، يترجم في إحدى ترجمتيه العربيتين إلى «صور المثقف». تعود المفردة الأجنبية إلى العقل intellect وليس إلى الثقافة culture وبالتأكيد فإنه لا المفردة العربية تدل على الابتعاد عن العقل بالضرورة ولا الأجنبية تدل على الابتعاد عن الثقافة بالضرورة أيضاً. ما يهم هو الضغط في كل من المفردتين على جانب واحد هو إما الثقافة أو العقل. حين نقول مثقف فإن العقلانية لا تغيب وإنما تتراجع لتقبع في الظل، والعكس صحيح في الحالة الأخرى. فهل نقرأ في هذا شيئاً عن وضع العقل والثقافة في منطقتنا العربية؟ لا أظن أحداً في المنطقة العربية سيفضل أن يسمى عقلانياً بدلاً من مثقف فيقال إن مجلس إدارة النادي الأدبي الفلاني يتألف من ستة عقلانيين وأربع عقلانيات. لكن هذا بحد ذاته مؤشر إلى مدى الاعتناء بالعقل في عمق الثقافة، وعلى المرحلة التاريخية التي وصلتها تلك الثقافة في مضمار نموها. من نسميهم «مثقفين» ينتمون بحسب التصنيف التقليدي للثقافة إلى ثقافة النخبة في مقابل الثقافة الشعبية، أو ثقافة العامة، لكن غياب البعد العقلاني عند نقل المفهوم من سياقه الغربي يوحي بأنه لم يكن هناك تمييز بين مستويي الثقافة المشار إليهما، وفي تقديري أن هذا دقيق إلى حد بعيد، فالمثقف في المشهد العربي متعدد الوجوه والمراتب، لكن الغالب عليه هو هذا المزيج من المستويات والاتجاهات الثقافية التي تبتعد به عن العقلانية أو تقربه إليها بحسب المستوى والاتجاه. فهناك من يغلب العقل على غيره بشكل واضح، وهناك من يبتعد عنه على رغم أن محصوله من المعرفة السائدة أو ما نسميه الثقافة محصول جيد وممتاز في بعض الأحيان. نعم الثقافة هي معرفة سائدة أو شائعة في حيّز مكاني وفترات تاريخية محددة، والناس متفاوتون في مدى اغترافهم منها وامتلاكهم لها وإفادتهم منها. ولأن الثقافة العربية الإسلامية الحالية، أي الثقافة السائدة في المجتمعات التي تنتسب إلى العروبة والإسلام، أو يغلب عليها هذان العنصران، لا تزال بعيدة عن النضج الذي حققته ثقافات أخرى، في الغرب بشكل خاص، وسبق أن حققته هي في فترات سابقة، فإن ذلك لا بد أن ينعكس علينا نحن المنتمين إلى تلك الثقافة على ما بيننا من تفاوت في التحصيل وفي القدرة على التفكير والانتقاد والتحليل أو الخلاص من هيمنة السائد. العقلانية ليست المكوّن الأهم في الثقافة السائدة في منطقتنا، والمثقف ليس بالضرورة عقلانياً نتيجة لذلك. شعرت بذلك بشكل حاد وأنا أطالع مقالة لكاتب أميركي في صحيفة «نيويورك تايمز» حول الدور السياسي للمثقفين (بالمعنى العقلاني الغربي الذي يقصده الكاتب وأقصده كلما وردت مفردة مثقف في ترجمتي لما يقول). الكاتب أستاذ فلسفة في جامعة نوتر ديم الأميركية وملاحظاته مضيئة فعلاً. يتساءل: «من هو المثقف؟» ثم يجيب: «بشكل عام هو شخص كرّس نفسه لما كان يسمى «حياة العقل»، أي التفكير ليس بوصفه أداة أو وسيلة لتحقيق أغراض عملية، وإنما بقصد المعرفة والفهم»، وبعد أن يشير إلى أن الجامعات في الوقت الحاضر هي الحاضن الرئيسي للمثقفين، يضيف: «المثقفون يخبروننا أشياء نحتاج إلى معرفتها: كيف تعمل الطبيعة وكيف يعمل المجتمع، ما نحتاج إلى معرفته عن ماضينا، كيف نحلل المفاهيم، كيف نتناول الفن والأدب. كما أنهم يبقوننا في حالة حوار مع العقول الكبيرة في ماضينا». لا شك لدي في أن عدداً لا بأس به من المثقفين في منطقتنا يقومون بهذا، لكني أكاد أجزم بأن عدد أولئك لا يقارن بنظرائهم في المجتمعات الأكثر نضجاً حضارياً. الغالب هو أن من نسميهم مثقفين في بلادنا ليسوا معنيين بالتفكير على المستوى الذي يصفه الكاتب الأميركي (واسمه لمن يريد المزيد Gary Gutting)، ولعل أحد أهم المؤشرات على ذلك أننا نسميهم «مثقفين» وليس «عقلانيين»، أما حين نتجاوز إلى صفة «مفكر» فإنها الطامة الكبرى التي لا يتردد صحافيو الثقافة من إسباغها بكرم بالغ على كل من لم يعرفوا له صفة واضحة أو أرادوا أن يرفعوا من قدره إعجاباً به وتكريساً لدوره. وفي تقديري أن صفة «مفكر» تحمل الآن من علو القدر الاجتماعي ما حمله يوماً لقب «دكتور». كان يكفي أن يقال إن فلاناً دكتور لكي يحترمه الناس. أما الآن فصفة التفكير كافية لاسيما حين لا يحمل الشخص لقباً علمياً ولا يعرف الصحافيون أين يضعونه، فصفة الكتابة ستكون أقل قدراً من قامته. ثم ألم تلاحظوا أنه لا يوجد حتى الآن نساء «مفكرات»... كأنما التفكير حكر على الرجال؟ * ناقد سعودي.