إذا كانت تحذيرات الإسلام واضحة في النهي عن الوقوع في عرض المسلم العادي، فما بالك بالوقوع في أعراض صحابة رسول الله الذين استفاضت نصوص القرآن والسنة بالترضي عنهم وتبشيرهم بالمنازل العليا في الجنة؟ إننا نرى اليوم، جرأة غريبة في تحليل أحداث الفتنة التي اندلعت بعد مقتل عثمان – رضي الله عنه – وما حدث بين علي وعائشة والزبير وطلحة ومعاوية – رضي الله عنهم أجمعين -. فترى الكاتب يطلق العنان لخياله، مدعياً القدرة العقلية التحليلية النفسية لوصف تلك الأحداث الجسام، مقلباً روايات تلك الأحداث، واضعاً أمامه كل المرويات التي وردت عن كل الفرق الإسلامية، خالطاً بين عدة رؤى متعارضة ومتناقضة في أصولها العقدية التي تنطلق منها. هذه نقطة في غاية الأهمية يغفل عنها كثيرون، فاعقد عليها إصبعك. إلا أن هذا الكاتب ينطلق في أوهامه، معتقداً أنه يسلك طريق العلم والتحليل، وما هو إلا المزاج والتضليل، مطلقاً قلمه ولسانه في سادة المسلمين، مطبقاً عليهم مناهج بحثية غربية مادية لا ترى شيئاً سوى الظاهر. ها هنا فرق منهجي كبير يفرقنا عن المناهج التي لا تملك القدرة على رؤية ما سوى الظاهر. هل يليق بالمؤمن إن يكون مادي النظرة ولو في قراءته للتاريخ؟ وهل يصح أن يعامل صحابة رسول الله وكأنهم مجموعة من السياسيين المزيفين الذين لا يهمهم سوى المصلحة الذاتية والانتصار على المخالف والانتقام منه؟! إطلاق اللسان في الإنسان العادي محرّم، واتهامه بالكفر إن لم يكن يستحقه، يعود على صاحبه. فما بالك بخيرة البشر بعد الأنبياء من أولئك النبلاء والنبيلات الذين تخرّجوا في المدرسة التربوية التي أنشأها محمد عليه الصلاة والسلام؟! وإذا كان الشيخ الصالح من المشايخ الذين لم يصلوا لمقام هؤلاء، يخرّج أجيالاً من التلاميذ الذين تعفّ ألسنتهم عن الوقيعة في أعراض المقصرين، حتى إنك لتترحم على ذلك الشيخ وتقول : «بارك الله فيه، لقد خرّج لنا تلاميذ جمعوا عفة اللسان وطهر القلب» فما بالك بنبي يوحى إليه؟! نبي هو خير الأنبياء قاطبة، وقد بقي مع هؤلاء الأصحاب عمره كله وليس جزءا منه، نهاره وليله، يعلمهم الاستقامة على خير الأديان، ويعلمهم طهر القلب وعفّة اللسان، ويعلمهم أن هذه الدنيا ليست سوى مظاهر خادعة ومتع قصيرة زائلة، فكيف يخطر ببالك ولو للحظة أن مثل هذا النبي الأكرم يمكن أن يفشل، فيخرّج للعالم مجموعة من المجرمين المتقاتلين على حطام الدنيا؟! هنا يحق لنا أن المستهدف هو النبي والرسالة والدين كله وليس الصحابة، فهم السند الذي وصل به الدين، وهم من نقله للتابعين، والطعن فيهم يجعل السند باطلاً. هذه الخاطرة لا تليق بإنسان عرف حلاوة الإيمان، وإنما تليق بأسرى النظرية المادية الذين لا يرون شيئاً وراء المادة، ولا يرون في حركة الإنسان إلا سعياً لمصلحة أو جمع مال أو تحصيل شهوة. كما أنك إذا نظرت في أحوال الصحابة – رضوان الله عليهم – لوجدت أنك أمام أناس قد وضعت أسماءهم في أعلى قوائم الكتب التي صنفت في الزهد. فقد كانوا أزهد الناس في الدنيا. كيف لا وهم تلاميذ أزهد إنسان فيها؟! فكيف يقال إنهم لما كبرت بهم السن واقتربوا من لقاء الله، تنازعوا على الدرهم والدينار وتسوير الأسوار؟! كل هذا لا يستقيم به منطق ولا يقبله عقل. وقد كانت معظم الفرق الإسلامية تنتحل الصحابة، وتحاول نسبتهم لفرقها، خذ لذلك مثلاً، وضع الخلفاء الراشدون الأربعة أبوبكر وعمر وعثمان وعلي في الطبقة الأولى من طبقات المعتزلة، رغبة منهم في الترويج لمذهبهم بانتحال أعظم وأفضل الصحابة – على الرغم من أنهم لم يكن لهم علاقة في قليل أو كثير بمنهج المعتزلة – فكيف يأتي متفاصح في القرون البعيدة جدا عما يحدث، يصف ما لم يرَ، يطبق على الأفاضل مناهج فرويد النفسية؟! الموقف السليم – بلا شك – هو الكف عما دار بين الصحابة من خلاف في الآراء أدى لتلك الصدامات، فإن أبيت ذلك وأصر ذهنك على معرفة ما حدث بالتفصيل، فعليك بكتب المحققين الصادقين النزهاء من أمثال محمد بن جرير الطبري، وابن كثير الدمشقي، وشمس الدين الذهبي، وشيخ الإسلام ابن تيمية ومن شابههم، فإن هؤلاء العلماء قد تكلموا في تلك الفتنة بنزاهة، ولم يكن لديهم أية مصلحة دنيوية تجمعهم بأي طرف من الأطراف المتخاصمة. فقد عاش أقربهم زمناً للفتنة، محمد بن جرير الطبري في القرن الثالث الهجري ( 224 – 310 ) وهذا معناه أنه لا يمكن ولا يحق أن يتهم واحد منهم بأنه مثقف سلطة. فقد عاشوا بعد نهاية دولة بني أمية التي انتهى حكمها في 132 للهجرة. وكانت بلادهم التي عاشوا فيها بعيدة عن سلطة دولة الأمويين التي نشأت في الأندلس بعد ذلك، فلا مجال لاتهامهم بالممالأة أو المجاملة أو أنهم كتبوا ما كتبوا تحت التهديد والخوف أو الطمع.