في كتابه «في المسألة العربية- مقدمة لبيان ديمقراطي عربي» في الفصل المعنون تحت ( بؤس نظريات التحول الديمقراطي) يطرح عزمي بشارة السؤالين التاليين: لماذا تنجح الديمقراطية في كل مكان ولا تنجح في العالم العربي؟ لماذا تتعقد مهمة الانتقال نحو الديمقراطية في العالم العربي؟ لا ليجيب عنهما. ولكن لكي يفكك المنطق الكامن خلف هذين السؤالين فبرأيه لا معنى للسؤال الأول «لأن الديمقراطية لم تنجح في كل مكان كما يدعى عادة على سبيل المبالغة، ولأنه لم تجر أصلا محاولة ديمقراطية عربية لكي تنجح أو تفشل. فنجاح التجربة الديمقراطية يقاس بعد أن تقوم التجربة» والسؤال الثاني برأيه لم يتجاوز خطاب التذمر والشكوى عند الأوساط المثقفة حيث ظل البحث عن السؤال في إطاره النظري ولم يتحول إلى ممارسة وفعل، وبالتالي إلى برنامج عمل سياسي واضح وصريح. وعليه فهو يلاحظ ظاهرة غريبة، أو كما يسميها « غرابة مألوفة» لكثرة ما تكررت في الخطابات الثقافية السياسية، لها صلة بالعلوم الاجتماعية. فمن المعلوم أن التقاليد العلمية لهذا الحقل وظيفتها الأساسية تكمن في « تفسير ظواهر قائمة أو شرحها وشرح أسبابها وتاريخها. لكن في الحالة العربية تخرج عن هذا السياق المفروغ منه إلى محاولة فهم أو تفسير غياب ظاهرة اجتماعية سياسية. وهذه الحالة، أي البحث عن أسباب غياب الديمقراطية في العالم العربي في الأبحاث الأكاديمية التي صدرت إلى الرأي العام عبر المثقفين والصحافة كأنها نقاش حول سؤال علمي هي حالة إيديولوجية، والسؤال المطروح، ليس نتاج جهد علمي مفهوم». ويحيل أبرز الدوافع في نشوء مثل هذه الظاهرة إلى ميول إيديولوجية قابعة في نفوس الباحثين الغربيين بالدرجة الأولى. فهو يقول عن هؤلاء أنهم « يعتقدون في قرارة أنفسهم وبخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وعبر حكم قيمة واضح، أن الديمقراطية انتصرت لأنها تستحق أن تنتصر. وهذا حكم قيمة، أي موقف. وبالتالي وبعد حسمه، يطرح التساؤل كأنه لازم مترتب عليه: لماذا تغيب الديمقراطية حيث تغيب؟ ولأنه يفترض أن وجودها هو القانون، وهو القاعدة، ولأنه يفترض ضمنا كما يبدو أن الديمقراطية هي الحالة الطبيعية فإن غيابها يبدو حيث لا توجد محيرا. ويجب أن يشرح هذا الغياب ذاته، أو أن يتم تشخيصه كأنه نقص أو مرض». هذه النظرة- كما وصفها عزمي بشارة- إلى الديمقراطية في الخطاب السياسي الغربي هي وليدة المركزية الغربية وابنتها الشرعية. وقد برهن الكثير من الباحثين على ضخامة الإرث الذي ترزح تحته هذه المركزية من خلال ربطها بالتعاليم الأولى للعهد القديم، وما جرى عليها تاليا من تحولات تاريخية، وفي كل عصر يتم فيها هذا الربط، يتم التأكيد على الخصوصية الثقافية للغرب، وعلى فرادتها وعبقريتها الوحيدة، وأجلى ما يكون ذلك في النظرية السياسية والأدبية. في النظرية السياسية استكمالا لما بينه عزمي بشارة حول الديمقراطية هناك مفاهيم كانت تستدعى من طرف باحثين لتحليل ظواهر اجتماعية سياسية في العالم الإسلامي من قبيل: الفاشية، والشعبوية …إلخ. في نظرة إسقاطية واختزالية تنتمي إلى نموذجها النمطي الغربي في نظرته للشرق بالقدر الذي تبتعد فيه عن مناقشة الظروف التاريخية المتنوعة والمعقدة التي تحكم مثل تلك الظواهر عند دراستها دون أحكام مسبقة. فعلى سبيل المثال جرت محاولات عديدة لإنتاج نظرية عامة حول الفاشية وقد باءت المحاولات من هذا النوع عموما بالفشل إلى حد كبير وقد بقيت الفاشية بوصفها حقلا تحليليا غامضة ومحددة أكثر مما ينبغي لقيام نظرية عامة. كما أن استخدامها كتعبير تحقيري حتى في التعليلات الأكاديمية، خلق المزيد من العراقيل أمام أي محاولة لاستخدامها بطريقة حية نظريا. وليست محاولة الباحث منصور معدل وصف- كما يشير إلى ذلك بوبي س سيد- النظام الإيراني كنوع من أنواع الفاشية في العالم الثالث محصنة من المصاعب العامة التي أعاقت استخدام الفاشية كحقل تحليلي خارج نطاق موقعها التاريخي والجغرافي المحدد».لقد كانت فاشية موسيليني هي النموذج الذي قاس عليه الباحث النظام الإيراني دون مراعاة الشرط التاريخي وظروفه. وهكذا فما ينطبق على مفهوم الفاشية ينطبق كذلك مفهوم الشعوبية رغم التمايز الذي يتسمان به في واقعهما التاريخي. هذه الصعوبات التي يواجهها التحليل في الفكر السياسي الغربي يرجعها الباحث بوبي س سيد إلى الطريقة التي بنيت فيها النظرية السياسية الغربية حول التعارض بين الجمهورية (الديمقراطية) والاستبداد الشرقي. لكن هذا الانقسام كما يشير نوبرتو بوبيو، لا يقوم ببساطة على مجموعة من الممارسات السياسية والحكومية. فالتفرع العظيم بين الديمقراطية والاستبداد يحدد التشكلات الثقافية المنظمة حصريا وهرميا بشكل متبادل. ويرتبط الاستبداد بالشرق فيما تعتبر الديمقراطية إرثا غربيا. لذلك يبقى في الفكر السياسي الغربي الاستبداد الشرقي حقلا أثريا أو نفيا لكل ما يقال إنه من صفات الجمهورية الغربية. لذلك مثلا اعتبر عمل المفكر أدورنو حول الاستبداد أن الشخصية الاستبدادية مجرد تشويه للشخصية الطبيعية التي تتميز بالفرد البورجوازي الليبرالي. لكن إذا كان كتاب عزمي بشارة صدر قبل الثورات العربية وناقش الديمقراطية من زاوية تناقضات الدرس الأكاديمي الغربي، فإن السياسة الغربية أرادت أن تشارك في صنع الديمقراطيات في الوطن العربي على مقاس مصالحها. وركوب موجة التحولات في البلاد العربية ليست سوى إدارة الدفة بشتى الطرق والوسائل.والمتأمل في تاريخ الديمقراطية عند الغرب يجد أنها لم يُعترف بها كمصطلح إلا في بدايات القرن التاسع عشر.قبلها كانت مبعدة عن الخطابات السياسية، وحتى عندما تحدث عنها توكفيل في رحلته إلى أمريكا لم تكن منتشرة بعد. لذلك كيف يقدم لنا الغرب وصفته السحرية عن الديمقراطية وهي لم تدخل قاموسه السياسي إلا في فترات وجيزة. لذلك كيف يطلب منا نحن العرب أن نتعلق بالديمقراطية كمصطلح دون أن نفكر بالمحتوى العميق لها من عدالة اجتماعية ومساواة وحرية. صحيح أن الاستبداد في الحكم لا يفضي إلى هذا المحتوى. لكن هناك في تاريخنا الإسلامي إضاءات مشرقة حققت ولو بالقليل عدالة وحرية ومساواة. أنا لا أدعو هنا إلى التخلي عن تبني الديمقراطية، لكن ينبغي أن نفكر في التناقض الذي نعيشه الآن بين هذا التبني وبين استشراء الطائفية والإقصاء في عرض البلاد العربية وطولها.