لا تزال الصعوبات والعثرات تلاحق الحكومة التونسية المؤقتة التي تقودها حركة النهضة بالاشتراك مع حليفيها. كان آخر هذه العثرات إقالة محافظ البنك المركزي مصطفى النابلي الذي يتمتع بخبرة عالية إلى جانب مكانة دولية مرموقة، جعلته في الفترة الأخيرة يحظى بلقب أفضل محافظ بنك مركزي في إفريقيا. أما سبب الإقالة فيعود إلى رفضه طلب رئيس الحكومة بطبع مزيد من الأوراق المالية خوفا منه من رفع نسبة التضخم. وقد أصر رئيس الجمهورية المنصف المرزوقي على إقصاء الرجل في هذا الظرف الصعب الذي تمر به البلاد. بعد ذلك، اندلعت مواجهة بين الترويكا الحاكمة والمعارضة التي شككت في نظافة ومصداقية المحافظ الجديد، الذي سبق أن عينه الرئيس بن علي في مجلس المستشارين. لكن مع ذلك دافعت عنه حركة النهضة والائتلاف الحاكم بعد معركة شرسة بالمجلس الوطني التأسيسي. الآن يمكن القول إن ملف محافظ البك المركزي قد طوي بعد جهد جهيد، ويتمنى الكثيرون في تونس أن يوفق السيد الشاذلي العياري المحافظ الجديد في مهامه الجديدة بعد أن حصل على أغلبية ضعيفة داخل المجلس الوطني التأسيسي على إثر عاصفة نقدية موجهة ضده كادت أن تسقط ترشيحه. لقد كان صمود الرجل عجيبا ونادرا أمام سيل لا يحتمل من السخرية القاسية طالت سنه حيث يبلغ من العمر 79 عاما، خاصة وأنه لم يكن على المستوى الشخصي مضطرا لتقبل كل تلك المهانة مقابل هذه المسؤولية المؤقتة. لكن مع ذلك فإن ما حدث بمناسبة هذه المسألة يحتاج إلى وقفة تأمل، نسوقها في إشارات سريعة أولا: إذا أخذنا برواية الترويكا يفترض أن يكون الهدف من هذه الزوبعة التي استمرت أكثر من شهرين هو تحقيق قدر أعلى من التعاون بين الحكومة والمحافظ الجديد دون المساس باستقلالية البنك المركزي. هذا ما تؤكد عليه الرواية الرسمية، لكن ما جاء على لسان أحد مستشاري رئيس الحكومة في حوار إذاعي لم يستبعد فرضية الرغبة في السيطرة على البنك المركزي. وهذا الاحتمال إذا تجسد على أرض الواقع خلال الفترة القادمة، فإن ذلك من شأنه أن يهدد مصداقية الائتلاف الحاكم، إضافة إلى تداعياته السلبية على عملية الانتقال الديمقراطي برمتها وعلى السياسة النقدية والاقتصاد الوطني المرتبط آليا بتقييم المؤسسات الدولية لأدائه وكيفية تدخل السلطة التنفيذية في إدارته. ثانيا: كشفت هذه الأزمة أيضا عن استمرار حالة التآكل داخل مكونات الائتلاف الحاكم. وهو ما عكسته نتائج التصويت. وما جاء على لسان عضوين رئيسين في حزب المؤتمر الذي يقوده د منصف المرزوقي عندما كشفا جوانب من خلفيات اختيار المحافظ الجديد، عكس إلى حد كبير حجم أزمة الثقة التي تهز حاليا أركان بعض أحزاب الائتلاف. حتى حركة النهضة المشهورة بانضباط ممثليها بالمجلس، اعترض بعض قيادييها على تزكية المحافظ الجديد، وشبه أحد كوادرها « لطفي زيتون « قرار التعيين بجرعة من السم. ذلك يؤكد أنه كلما طالت فترة حكم الترويكا إلا واتسعت رقعة التصدع في صفوفها، ومن هذه الزاوية سيكون من صالحها التعجيل بتنظيم الانتخابات البرلمانية في أقرب الآجال. ثالثا: بمناسبة الجدل العنيف الذي فجرته اختيار عملية اختيار المحافظ الجديد للبنك المركزي، عاد من جديد الحديث عن مدى مشروعية الاستعانة بكوادر الحزب الحاكم سابقا. فمن جهة تطالب حركة النهضة وبقية أطراف الترويكا بالقطع مع الماضي، وقد تقدم في هذا السياق حزب المرزوقي بمشروع قانون إلى المجلس التأسيسي لحرمان عدد واسع من أعضاء التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم سابقا أو الذين سبق لهم أن تحملوا مسؤوليات في عهد بن علي من حق المشاركة في الانتخابات أو تشكيل أحزاب سياسية، بما في ذلك منعهم من الترشح والترشيح. لكن هذه الدعوة إلى عزل التجمعيين أو الذين تحملوا مسؤوليات سابقة في مراحل ما فبل الثورة فقدت اليوم الكثير من مشروعيتها بسبب استعانة حركة النهضة والائتلاف الحاكم بخدمات الكثير من هؤلاء. أي أن التجربة أثبتت أن الأطراف التي تمسكت بضرورة القطع مع الماضي، تعاملت مع هذا الملف بكثير من الانتقائية مما يجعلها في حرج سياسي إذا ما استمرت في دفاعها عن خطابها السابق. وتلك هي الضريبة المنتظرة من كل منهجية تعتمد المناورات السياسية والحسابات الحزبية الضيقة. يبدو أن الترويكا في حاجة لوقفة أخرى تقيم فيها بجدية أداءها بعد كل هذه التعثرات والأزمات المتتالية والمكلفة على أكثر من صعيد. إذ بعد أن طويت صفحة محافظ البنك المركزي انفجرت قنبلة أخرى تمثلت في استقالة وزير المالية. هذا يعني أن الائتلاف الحاكم أصبح في أشد الحاجة بالخصوص إلى استحضار مخاطر المحاصصة على حساب المبادئ ، وكسبت بفضلها الأحزاب الحاكمة ثقة أغلبية الناخبين. فذاكرة التونسيين قد تكون قصيرة ولكنها بالتأكيد غير منعدمة.