لا يقين ثقافي كما نعرف، فيما رحلة التنقيب والتحديد ستكون غير عادلة لأن مقطعا واحدا من كتاب ربما يغير حياة بكاملها لأحدنا.. غير أن هناك أعمال عبقرية تتخللك بدون استئذان وتبدو كما لو أنها هوية مباشرة حتى إنها تراهن معك تماماً على الحقيقة وعلى الحب وعلى الإنسان فقط.. مثلاً كنت ولا زلت استنجد بزوربا، كما كانت ولا تزال روحي تصاب بأمانها الخاص مع عمر الخيام في رواية سمرقند لأمين معلوف، لكنني غالباً ما أراني بين بول غوغول وفلورا تريستان كما هما في عذاباتهما التي دونها ماريو بارغاس يوسا في رائعته الفردوس على الناصية الأخرى.. وهنا تتداخل الذاكرة عموماً، فنيتشه في زرادشت مثلي الأعلى أحياناً، وأحياناً عالمي الواسع رهينة زيد مطيع دماج، كذلك كان المتنبي وأبي نواس والبردوني من المؤثرين الكبار، أما مظفر النواب ومحمود درويش وأمل دنقل وسعدي فإنهم يؤرخون لمرحلة نفسية عزيزة خضعت لكثير تحولات.. وعموماً فإن مايمتعني في هذا كله هو الهتك الذي وجدته كثيفاً في أعمال ديستويفسكي بالذات، وأيضا اللاوعي كما في يوميات أناييس نن، مثلما الانفعالات التي بلا حواجز في كتاب اللاطمأنينة لفرناندو بيسوا.. على أن أعظم المؤلفات بالنسبة لي هي تلك التي تختبر إنسانيتنا، و تكسر طواطم الجنس والدين والسياسة، وهكذا لازلت أشعر بالامتنان لأعمال كالخبز الحافي لشكري أو بيضة النعامة لرؤوف مسعد، أو الشخصية المحمدية لمعروف الرصافي، أو ديوان الحلاج، أو الحارس في حقل الشوفان يتيمة سالينجر المجنون أويوتوبيا توماس مور، أورسالة في التسامح لجون لوك، أو وليمة لأعشاب البحر لحيدر حيدر، أو أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة لأنجلز، أو هيجل في المدخل إلى علم الجمال، أو فرويد في تفسير الأحلام، أو الاستشراق لأدوار سعيد، أو الاشتراكية والفن لأرنست فيشر. وفي السياق ذاته لا أنسى نقد العقل العربي للجابري كمفتتح مهم لقراءة مختلفة للتاريخ والنص، وبالموازاة شرقا وغربا، كما التحليل النفسي لعصاب جماعي لجورج طرابيشي باعتبارهما من أهم مفاتيح الفكر العربي الحديث برأيي.. فضلا عن ذلك -ودون محددات- المتحول والثابت لأدونيس، وحفريات المعرفة لميشيل فوكو، ونجمة لكاتب ياسين، ومقدمة ابن خلدون، وتقرير إلى غريكو لكازانتزاكيس: من المنتجات الإبداعية والبحثية الهامة جدا على أكثر من صعيد.. وبالطبع فإن محمد أركون ونصر حامد أبو زيد وعبد الله العروي ومحمد العباس والعفيف الأخضر وهيكل وأبوبكر السقاف أسماء عربية أكن لها الكثير من الاحترام لاشك، بينما وديع سعادة وإدوار الخراط وأنسي الحاج وسليم بركات يبهراني دائماً على مستوى قصيدة النثر واللغة والنص الإبداعي المفتوح. وبالتأكيد فإن الخيط المشترك في كل ماذكرت سابقا يكمن في الفكرة الجمالية القصوى.. ومن الصعب طبعاً الاستفراد بكتاب واحد فقط حقق هذا الاستفراد الذي طرحه سؤالك داخل أحد منا مثلاً. بل أزعم أنني لم أذكر إلا القليل.