لا أحد ينسى التقرير الشهير لوكالة الأنباء السعودية (واس) الخاص بكارثة سيول جدة، ذلك التقرير الذي انتقده وزير الإعلام نفسه بالقول: (إنه تقرير افتقد للمهنية وفيه استهزاء واستخفاف بمشاعر الناس). حيث أنه وفي الوقت الذي كان الناس فيه يتبادلون آلاف المقاطع عن سيول جدة؛ تلك المقاطع التي لا يُدرى أيها أشد وقعاً على النفس من الآخر، كانت (واس) تطالعنا بتقرير يقول أن الأطفال والأسر فرحون بهطول الأمطار ومستمتعون بهذه الأجواء المناخية الجميلة والرائعة، كما كان التقرير يخبرنا بأن الأهالي لم يتذمروا من تجمع مياه الأمطار في الشوارع لعلمهم أن شبكة التصريف لم تنته بعد!. لعلي لا أُغالي إن قلت إن مثل هذا التقرير يضع مصداقية وسائل إعلامنا على المحك، ومن الواجب إعادة النظر في تقييمها والتأكد من قدرتها على المنافسة في زمن يشهد ثورة في الاتصالات وانفجاراً في المعلومات، خصوصاً وأن الدول تتنافس فيما بينها على جذب الجماهير محاولةً تعزيز مصداقيتها وإضعاف مصداقية خصومها، فالدعاية الموجهة من الأعداء تبدو لأول وهلة على أنها سلسلة أكاذيب فاضحة، ثم يعتبرها المشاهد تضخيماً للأحداث، وينتهي به الأمر إلى تصديقها. فمن يملك إعلاماً محترفاً يمكنه أن يجعل من حادثة تافهة أمراً خطيراً، كما يمكنه أن يسدل الستار على قضايا هامة لا يلبث الجمهور أن ينساها، لكن ذلك يحتاج إلى أن يكون قادراً على جذب الناس وإقناعهم، إذ أن قيمة وسائل الإعلام بعدد جماهيرها وانتشارها، لا حجمها أو مصادر تمويلها، فالرئيس مبارك ذُهل في أول زيارة لمبنى قناة الجزيرة حيث وجد أن مبناها متواضع جداً، وحجمها أقل بكثير من صيتها، فقال مازحاً شبه جاد: (كل الضجة دي طالعة من علبة الكبريت دي!). ولكم كان يأس الرئيس كبيراً وهو يشاهد تلك العلبة تكتب الفصل الأخير من نهاية حكمه الذي استمر لأكثر من ثلاثة عقود، وأن عوداً من أعوادها كان كافياً لإحراق كل الأوراق التي رفعتها الحكومة عبر إعلامها الرسمي، فكثيراً ما تفقد بعض وسائل الإعلام مصداقيتها لدرجة أن تبدو الأشياء كاذبةً إلى أن تنفيها؛ ومتى نفتها صدقها الناس، ولذلك تعمد بعض الحكومات إلى أن تصطنع الخصومة مع وسائل إعلامها تعزيزاً لجاذبيتها، فتسمح بنشر الحقائق والمعلومات مع الإيحاء بسريتها وإخفاءها، ثم تتظاهر بالامتعاض تأكيداً لهذه الخصومة وإيهاماً بالموضوعية. ويمكن القول أن وسائل الإعلام التي لا تمارس هذا الدور في عملها ليست وسائل إعلام، والتي تمارسه من أجل الإثارة فقط تصبح مجرد كوميديا، فعندما يغرق الناس في هذا الكم الهائل من المعلومات فإنهم يجدون صعوبة في تحديد ما ينجذبون إليه ويصبح الانتباه هو الشيء النادر، عند ذلك ليس مهماً كم تمتلك من وسائل الإعلام التي تعمل لصالحك، ولكن الأهم هو كم عدد الذين بإمكانك أن تجتذبهم إليك، فقبل المظاهرات التي أدت إلى إسقاط الرئيس مبارك، كان أغلب المصريين يتابعون قنوات الجزيرة والعربية وال bbc وغيرها، بينما لم يكن أحد يتابع القنوات التي تسيطر عليها الحكومة المصرية، وحين بدأت الثورة وجدت الحكومة أن وسائل إعلامها هلاهيل هشة لا تكاد تستند إلى أحدها حتى تتهتك وتنفتق، فلم تجد بداً من محاولة التشويش على تلك القنوات و التحريض عليها أملاً في إسكاتها، وهو ما دفع الناس لأن يتجهوا إلى مواقع التواصل الاجتماعي و يتحولوا من مجرد مشاهدين للحدث إلى صانعين لتفاصيله ناقلين لها، فما وجدت الحكومة حلاً أفضل من القيام بقطع الاتصالات معتقدةً أن الناس لا زالوا تحت وصايتها، بيد أن ذلك زاد من النار اضطراماً وضاعف من أعداد المتعاطفين مع المتظاهرين والساخطين كل السخط على الحكومة، فالحكومة المصرية قد أساءت التقدير حين اعتقدت أن بإمكانها مواجهة هذا المد الهادر من المعلومات بطرق بدائية كالحجب و الإغلاق أو التشكيك في النوايا، كما أدركت متأخرة أن الإعلام الذي توجهه إلى نفسها ليس كالإعلام الذي توجهه إلى الشعب، وأن الشعب قد انعتق من تبعيتها وأخذ يبحث عن غيرها، فلما حاولت إعادة السيطرة واحتواء الشعب كان التاريخ قد قال كلمته.