اليوم يدخل علينا شهر رمضان، لم نكن نفاجأ بذلك إذ نحن في انتظاره كمن يُقبل عليه من يحبه، ليس مفاجأة إذ كنا نراه في أعين الرجال، والنساء، وأعين بعضنا قبل أن نراه في السماء، في الأعين تلك، كان شيء يتماثل، والأنس، والالتقاء الحقيقي بالغفران. دائبون كان هم الناس في الاستغفار، وفي لملمة الخطايا، وجمعها لسلة الفضيلة في الأيام الجليلة، إنه الانتقال للصفحة البيضاء الناصعة، وإحراق الصفحات المشوهة بالخبائث. كانت الحياة فيه تسير ببطء وسكينة، والتأمل والالتفات إلى الجانب الآخر منها، هو قطار الرجاء والصلوات، والرغبات التي تنشد النعيم. يهطل النخل بتمراته؛ ويساقط الأناناس، والخوخ، والتوت فتملأ جرار الأفواه بالرضا والحمد. النهار اليابس الممتد بين الشمس، والعطش، وحمى الجوع يمضي إلى النسيان مع الأذان المرتقب بكأس الأنناس المملوء ماءً هددته رياح الغروب. قبل الأذان، حينها كنا نوقن تماماً أن الصيام ليس عبادة سهلة، ولا يمكن لمن لم يبلغ الحلم أن يقترفه، أو يجاوز نهاره دون شربة ماء مختلسة، أو كسرة خبز مغتصبة في مكان آمن، كان رمضان يفترس أجسادنا ويجففها، لكنه كان أيضاً يبلل قلوبنا، ويأخذها إلى أنهار الجنة حيث تشرب نقاء، وصفاء وطمأنينة. عندما كان يوشك نداء الرب أن يقترب، ونجمة الزهرة أن تشرب من رأس الجبل الشاخص، وحين يبدأ الجد – عبدالله – بالتكبير الرحيم، ونحن نرتقب من مكان بعيد، نكون قد بدأنا مد أيدينا بكأس ماء ثان في وعاء الأناناس، الذي لم يكن ماء يخالطه ثلج أو ورد. ونسوقه إلى الجوف المؤمنة زمراً. كان النداء، المخضب بالعطش، بعث جديد للحياة التي امتثلنا ركنها خوفاً، ورهباً، وطاعة نرجو بها حوض الأعظم هناك. الليالي الرمضانية كانت قداسة وانحناء، وخشوع فطري. والسور المتكررة في صوت أبي – الهادئ – في صلاة التراويح، من فوق المسجد القديم، تجتث الشياطين، وتمسك بنواصينا، وأنوفنا فتجعلها في لحظات السجود كأنها تلامس تراب الجنان، وتشتم أنسام الحور. كان -أبي- لا يعرف دعاء الوتر، لكنه كان يطوف بنا بين أبواب الجنة. رحلة التراويح، التي كانت تنقضي قبل أن ينفد زيت الفانوس الصغير، كنا نمضيها رحلة ربانية طاهرة خارج سرب الحياة الآسنة. في السحر لاشيء يوقظنا إلا سحر الأنجم، والهدوء، ونباح كلب جارنا الذي يتدفأ بالجدار. في السَحر كان يوقظنا الخوف من عطش، ومسغبة الغد الرمضاني. السحور القليل الذي كان يتبارك بالنوايا، وضوء الفانوس والظلام، الذي يلمم صلوات الليل، هو المحطة الأخيرة التي تمنحنا بعض الأمان لتخطي نهار قاهر مقبل، محفوف بالمشقات الحياتية الضرورية. الشمس تشرق في جباهنا، وتسير كسلحفاة، يخبؤنا العطش، والتعب في بعض ظلال شجر السدر المثقوب، وقد نغفو جلوساً، والظلال تتنحى فنصحو، ونحتسي قطرات العرق التي تنساب من نواصينا اليابسة. نسأل الرب أن يسامحنا على القطرات المالحة تلك التي كنا نستلها من النواصي ونبلل بها ألسنتنا وشفاهنا. كان حقاً رمضان رمضاء قاسية جبارة، لكنه الانقياد الحقيقي لله، والجهاد الذاتي للشهوات. كان رمضان قيد واثق للشياطين تصفد فيه، فلا تستطيع إلينا بلوغاً؛ لا ترجمنا بإغرآتها التي تفسد شعيرة الرب العظيمة. كنا نسمع أن فلاناً أدرك ليلة القدر، وقد رأي فيها أصحاباً ميتين، منهم المنعم وآخرين ليسوا كذلك، وقد رأى في تلك الليلة أن الشجر جذوره للسماء. كنت عندما أشاهده أشعر أنه يختلف، وأن الله قد اختصه بشيء عظيم، ومميز لا يكون إلا للمؤمنين حقاً. كنت أقول في نفسي: ترى لمن ستكون ليلة القدر في رمضان الحالي. مضت ليالي قدرية كثيرة بعدها، ولم أعد أسمع أن أحداً كان ذا حظ كحظ صاحبنا سالف الذكر. رمضان الأمس، أعتقد أنه كان حالة تعب مرضية، ومشقة لذيذة، ولحظة استرخاء من أدران الفصول. كان هدية ربانية لعباد صالحين، لعباد لا يعرفون اللهو عن القداسات، ويتجلون بالطاعات، ولا تشغلهم الأهواء عن النذور الفطرية الممزوجة مع أمشاجهم المخلقة. علينا أن نضع قائمة بأسماء المسلسلات، والبرامج في هذا الشهر. يجب أن نتابع ما نستطيع، وآمل ألا تتعارض مع بعضها. رمضان قادم إذن هناك دورات رياضية، وملاعب مضاءة، ومطاعم متنوعة. في أيامنا هذه هكذا نستقبل رمضان إلينا بالبشارات؛ والآتي إلينا بالنور الذي نحتاج لإن نجلو به عتمات الأكنة، ودياجي الأنفس التي كلّحتها الحياة، والشهوات، وأصبحت خطاياها أشباحاً تتخطفها من الصلاح. نستقبله كأي شهر، الفرح الذي كان له أصبح كالفرح بثوب العيد الآن. إننا نعيشه لهواً إضافياً، وإجازة ممتعة ننعم فيه بالمأكل والمشرب، ونقضي ليله أنساً، ونهاره أحلاماً ورؤى، ننتظر أذانه دونما انتظار حقيقي، إذ لم تتعب فيه إلا أحلامنا ورؤانا. لا ندعو لمن أذهب الظمأ، وبلل العروق فلا ظمأ، والعروق لا تزال متخدرة بفعل النهار السباتي الإبليسي. رمضاننا اليوم هو نسخة أخرى متطابقة لرمضان الذي سبقه بعام. لن نحفل في هذا العام بشيء جديد، حتى الشعائر المسنونة فيه ستحد من إحساسنا الديني ومن قدسيته. فلن تدعك نداءات الصلاة المتداخلة بأصواتها، والقائمة في لياليه بالذكر أن تستلهم الطمأنينة، والخشوع؛ وستفضي بك إلى حديث نفس يقول لك: إن الإمام صوته غير حسن، وأنه يطيل، وستوسوس لك بأن تنظر إلى الساعة المعلقة أمامك، واحسب كم دقيقة تبقت حتى ينتهي؟ وكم ركعة يجب علي أن تتصبر عليها معه؟. في رمضان، كل يوم لابد أن أنهي جزءا من القرآن. أصبحت عادة الجزء ملازمة، ومتزامنة مع الشهر، ودأب عليها غالبنا. إنها عادة طي الصفحات والتهام الأحزاب دونما تدبر، أو تأن، أو تأمل. نحمل هكذا أسفارنا في أفواهنا كمن يحمل أسفارا فوق ظهره، عشوائي القراءة، ونمقت حتى كتب التفسير، والمعاني. رمضان سيكون فرصة جيدة للتسوق، والمنظمون في حياتهم يستبقون غيرهم للتسوق للعيد في عشره الأول!. رمضان يا صديقي افتقد أصحابه المخلصين، أصحابه الذين مضوا إلى بابه الريان، هناك يأملون أن يشفع لهم أمس العرق المسروق، والظلال المثقوبة وكأس الأناناس، والشمس الموقدة، وأصحابه الذين هم الآن عند بابه ويطرقونه فينظر إليهم، وكأنه لا يعرفهم. الحياة حقاً قد بعثرت ملامحهم. لكن رمضان يدخلهم عله يستطيع أن يعيد ترتيب، ولو قليل منهم. إذ هو كريم كما نعرف. رمضان اليوم سأحاول أن أعيشه كرمضان الأمس ذي الشمس الموقدة، والجباه المصطلية، والصلوات الطيبات الخاشعات. سأرتقب نهايات العطش وبدايات تكبيرات الرحمة، وسأشرب ماء الطاعة من وعاء الأنناس القديم. قد أستطيع كل هذا، لكني قد لا أستبق، والفانوس لصوت أبي الهادئ وهو يرتل في تراويحه سورة الأعلى والغاشية.