تفاءل المهتمون بقضية الأهلة بعقد المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي مؤتمرا بعنوان «المؤتمر العالمي لإثبات الشهور القمرية بين علماء الشريعة والحساب الفلكي» (19 – 21/ 3/ 1433). وبيَّن المؤتمر أن ذلك كان «انطلاقاً من مسؤوليات (المجمع) في معالجة قضايا المسلمين، ولما رأى من شدة الحاجة لبحث هذا الموضوع». و»اجتمع فيه نخبةٌ من العلماء الشرعيين والفلكيين من هيئات شرعية، وجامعات ومراكز أبحاث متخصصة، من داخل المملكة وخارجها، في أقدس بقعة من بقاع العالم، في مكةالمكرمة وفي رحاب الكعبة المشرفة، برعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود حفظه الله ووفقه لخدمة الإسلام والمسلمين». وألقى الباحثون الشرعيون والفلكيون فيه عددا من الأبحاث ناقشت جوانب هذه القضية الشرعية والعلمية كلها. وأصدر المؤتمرون عددا من التوصيات المهمة، خاصة لصدورها عن هذا المؤتمر الذي عُقد في المملكة. ولم يدم ذلك التفاؤل طويلا؛ فقد ووجه المؤتمر وتوصياته مباشرة باعتراض حاد في مقال كتبه فضيلة الشيخ صالح الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء (الجزيرة 29/ 3/ 1433)، ينهى فيه عن الخوض في هذا الموضوع المحسوم -كما يرى- بما ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. ولما علَّق الدكتور سعد القويعي، الأستاذ في جامعة الإمام محمد بن سعود، على ذلك المقال (الجزيرة، 9/ 4/ 1433)، رد الشيخ الفاضل بمقال تقريعي ينسف فيه توصيات المؤتمر من أساسها بعنوان موحٍ هو: «لكم حسابكم ولنا سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» (الجزيرة 15/ 2/ 1433). فيقول فضيلته إن الوسيلتين الوحيدتين لإثبات دخول الشهر هما الرؤية أو إكمال العدد. ثم يتهم من يرى الاستعانة بالحساب الفلكي في التثبت بأنه يحاول «زحزحة المسلمين عن العمل» بهاتين الوسيلتين. ويصف جهود العلماء والفلكيين بأنها «شبهات ومحاولات يائسة مصيرها الفشل وحصول الاختلاف الذي هو نتيجة من تخلّى عمّا شرع الله في هذا وفي غيره». وقال عن جهود مدينة الملك عبدالعزيز إننا «لسنا بحاجة إليها ولا إلى غيرها في هذا الشأن الذي حسمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً، حيث أمرنا في صومنا وفطرنا بالاعتماد على الرؤية البصرية للهلال ولا نمانع من الاستعانة بالمناظير التي تساعد على الرؤية وتحدد مكان تحريها مع أن هذا ليس بلازم فإذا رؤي الهلال بالعين المجردة كفى». وسبق أن ناقش المهتمون بقضية الهلال النقاطَ التي أشار إليها الشيخ الفوزان كلها وأوضحوها باستفاضة علمية لا مزيد عليها. لكن المشكل يكمن في أن بعض منسوبي المؤسسات الدينية المؤثرين، ومنهم الشيخ الفوزان، لا يقبلون من حيث المبدأ النظر في أي رأي يخالف الموقف الذي ساروا عليه منذ زمن طويل.وعاد الشيخ الفوزان إلى هذه القضية في مقال نشرته مجلة الدعوة (22/ 8/ 1433، ص13) بعنوان: «أدعياء علم الحساب الجهلة يشوشون على الناس في كل عام». وكان الأحرى بشيخنا الفاضل الترفع عن هذه الاتهامات في وصف علماء مسلمين، كالعلماء الشرعيين والفلكيين الذين اجتمعوا في مؤتمر مكة وغيرهم من المتخصصين في علم الفلك والشريعة الذين يرون رأيا يخالف رأيه. ولا يختلف هذا المقال عن مداخلات الشيخ الفاضل القاسية السابقة. والمعروف عن هؤلاء المتخصصين -بعكس وصف الشيخ الفوزان لهم- أنهم علماء مسلمون -سعوديين وغير سعوديين- يحملون أعلى الدرجات العلمية في الشريعة أو في علم الفلك. ويشهد لهم من يعرفهم بالصدق والمهنية مما يجعلهم أبعد ما يكون عن الادعاء والجهل، بل هم جديرون بالتزكية والثقة. ويحتج الشيخ الفوزان -كغيره- بأن الموجب للاقتصار على الرؤية البصرية للهلال هو اتباع السنة النبوية في هذا الشأن. وقد بيَّن المتخصصون المسلمون في علم الفلك، وعلماء الشريعة الذين يرون رأيهم، مرارا أنهم لا يسعون إلى استبدال الحساب الفلكي بالرؤية الشرعية. أما ما يسعون إليه، بكل وضوح، فهو استخدام الحساب الفلكي لدرء تعارض شهادة من يتقدم للشهادة برؤية الهلال مع الحقائق الفلكية وحسب. لهذا فإن الدافع وراء جهود علماء الشريعة وعلماء الفلك المسلمين الذين يرون هذا الرأي عن الهلال إنما هو صيانة السنة النبوية من تلاعب الواهمين، فهم يتمسكون بالسنة النبوية ويصونونها. أما الواهمون فهم الذين يزكيهم الشيخ الفوزان بأنهم «لا يمكن أن يتواطؤوا على الوهم». وهذه تزكية دائمة لأناس يجوز عليهم الخطأ والوهم والعوارض الأخرى لصحة ما يظنون أنهم رأوه. ومما يؤكد أن هذه التزكية ليست في محلها أن «الأشخاص» الذين يتقدمون في كل عام للشهادة برؤية الهلال لا يزيدون عن خمسة، وهم معروفون ويسكنون في منطقة واحدة، ويشهدون برؤية الهلال أحيانا كثيرة وهو غير موجود فوق الأفق. ويدعي بعضهم أنه يراه قبل غروب الشمس! وتتناقض شهاداتهم الواهمة دائما مع شهادات عدد كبير من المهتمين والمتخصصين العدول العلماء الذين يتحرون الهلال في لجان رسمية بأدق أجهزة الرصد. وتخالف شهاداتهم واقعَ الهلال والحقائق الفلكية دائما بنسب غير مقبولة. فقد بيَّن بحث علمي منشور أن نسب هذه المخالفة بلغت في خمسين سنة، من 1380ه إلى 1429ه، 88% لرمضان، و86% لشوال، و76% لذي الحجة. ولا أظن شيخنا الفاضل سيعدِّل أي شاهد تصل مخالفة شهادته للواقع إلى هذه النسب العالية، مهما كان رأينا في صلاحه. بل أجزم أنه لن يتردد في رد شهادته لذلك السبب وحده. والمؤسف أن يصرف على المؤتمر الذي عقد في رابطة العالم الإسلامي في مكةالمكرمة ملايين الريالات من المال العام، ثم يقابل المشاركون العدول العلماء فيه بمثل هذه الاتهامات المؤسفة. فمادام أننا لا نحترم الآراء العلمية لعلماء الفلك المسلمين الموثوقين والاجتهادات الفقهية المعتبرة لبعض علماء الشريعة فمن العبث، إذن، أن نعقد مؤتمرات في بلادنا وندعوهم إليها ثم نقابل آراءهم واجتهاداتهم بالاستخفاف والتشكيك والاتهام. (وسيغرب الهلال مساء هذا اليوم الخميس بعد ثلاث دقائق من غروب الشمس في منطقة الرياض، وبعد ست دقائق من غروبها في مكةالمكرمة. وستكون رؤيته مستحيلة لانخفاضه وقِصَر مدة مُكثِه، حتى بالأجهزة المتطورة. فاحذروا من شهادة الواهمين!).