سعادة رئيس - تحرير- صحيفة الجزيرة، الأستاذ: خالد بن حمد المالك.. سلمه الله.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد اطلعت على مقال -فضيلة الشيخ -: صالح بن فوزان الفوزان -حفظه الله-، في صحيفة الجزيرة في عددها، رقم (14390)، وتاريخ: 29-3-1433ه، بعنوان: «لا تكلف في رؤية الهلال»، وقد ذكر فيه أن: «المسلمين من عهده -صلى الله عليه وسلم-، يمشون في صومهم، وإفطارهم على هذا المنهج، الذي رسمه لهم نبيهم دون تكلف، أو تشكيك في الرؤية؛ حتى ظهرت في العصر الأخير جماعات، وأفراد، يتكلفون في تحديد بداية الصوم، ونهايته، ويتشككون في الرؤية، ويحاولون الاعتماد على الحساب الفلكي؛ فيعقدون المؤتمرات، والندوات التي تنتهي بلا نتيجة ؛ لأن الحساب عمل بشري، وكل حاسب له طريقة تختلف عن الحاسب الآخر، كما أنه عرضة للخطأ، أما الاعتماد على الرؤية، أو إكمال العدة كما أمرنا نبينا بذلك، فهو حُكْم شرعي صالح لكل زمان، ومكان»، إلى أن قال: «ولم يتكلَّف -صلى الله عليه وسلم- في اعتماد الشهادة بمعرفة وقت الاقتران، ومعرفة غياب القمر قبل غياب قرص الشمس، أو بعده، وأن ارتفاع القمر في الليلة التي تعقب اقترانه قد يكون بدرجة أقل، أو أكثر حال الرؤية، مما ينفي الشك في شهادته، كما جاء في قرار رابطة العالم الإسلامي. كل هذا من التكلُّف الذي ما أنزل الله به من سلطان، ولا أمر به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا فعله». بداية يا فضيلة الشيخ: فإن مدينة -الملك- عبدالعزيز للعلوم، والتقنية، تولي موضوع «رصد الأهلة» أهمية بالغة، لما له من ارتباط بالشعائر الإسلامية، -وبخاصة- تلك الشهور المرتبطة بالعبادات، مثل: شهر رمضان المبارك، وشهري ذي الحجة، ومحرم، وغيرهما من الشهور القمرية. فتقوم المدينة مشكورة -من خلال- كوادرها البشرية، وتجهيزاتها العلمية، بإعداد التقارير الخاصة بأهلة أوائل الأشهر القمرية بشكل دوري، وكذلك المشاركة في لجان الرصد، كل ذلك بما يتماشى مع التطور العلمي في هذا المجال. فالعلم يتطور، والاكتشافات، وعلوم الفضاء، والفلك في تقدم مذهل، والتكنولوجيا التي ترصد حركة الأفلاك، والنجوم أصبحت متوافرة، ومتقدمة، ودقيقة، وعليه فلا وجود للأخطاء في الحسابات الفلكية -بإذن الله-. مع أن علماء الفلك، لا يريدون استبدال الرؤية بالاعتماد على الحساب، بل هم مدركون حقيقة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته»، لكنهم يريدون أن يكون صومنا، وفطرنا لرؤية الهلال، كما أمر عليه الصلاة والسلام، وليس لرؤية شيء يشبه الهلال. لا يشك عاقل يا فضيلة الشيخ: أن أحوال المسلمين في العصر الذي نعيشه قد تغيرت كثيرا، وبصورة هائلة، فالعلم يتطور، والاكتشافات المذهلة في الطب، والهندسة، وعلوم الذرة، والطاقة، وغيرها من العلوم التجريبية في تقدم مذهل. ومن ذلك: «علوم الفضاء، والفلك، ومعرفة حقائق الكون، ودقائقه، وحركة الأفلاك، والنجوم»، ونتائجها -بلا شك- قطعية. وهو ما أشار إليه -فضيلة الشيخ- أحمد شاكر -رحمه الله- عند شرح حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنا أمة أمية لا نكتب، ولا نحسب...». فقال -رحمه الله-: «الأمر باعتماد الرؤية وحدها، جاء معللا بعلة منصوصة، وهي: أن الأمة أمية لا تكتب، ولا تحسب، والعلة تدور مع المعلول -وجوداً وعدماً-. فإذا خرجت الأمة عن أميتها، وصارت تكتب، وتحسب، أعني: صارت في مجموعها ممن يعرف هذه العلوم، وأمكن الناس -خاصتهم وعامتهم-، أن يصلوا إلى اليقين، والقطع في حساب أول الشهر، وأمكن أن يثقوا بهذا الحساب ثقتهم بالرؤية، أو أقوى، وجب أن يرجعوا إلى اليقين الثابت، وأن يأخذوا في إثبات الأهلة بالحساب». فضيلة الشيخ: إن الجمع بين رؤية الهلال مباشرة عن طريق الرؤية بالعين المجردة، أو عن طريق الرؤية بواسطة آلة تكبير من مرصد فلكي، أو غيره. مع أخذ الاعتبار لرأي الهيئات العلمية، التي لديها علماء، ومختصون في علوم الفضاء، والفلك، سيكون سببا في تضييق دائرة الخلاف، والتفرق، والتشتت، وسيعكس وحدة المسلمين. -لاسيما- وأن علم الفلك -اليوم-، علم كوني معتمد على نظريات كونية، وحسابات دقيقة، نتائجها -بلا شك- قطعية، لا تتعارض مع النصوص الشرعية، من كتاب الله، أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن اعتبار الحساب الفلكي في حالة النفي، ورد الشهادة برؤية الهلال قبل ولادته، وغروبه قبل غروب الشمس، هو قول جمع من أهل العلم: -كشيخ الإسلام- ابن تيمية، -وتلميذه- ابن القيم، والقرافي، وابن رشد، والسبكي، وابن سريج، وعبدالله بن مطرف، وأحمد شاكر، ومصطفى الزرقا، وعبدالله بن منيع، وغيرهم كثير من علماء المسلمين. وتأسيسا على ما سبق: فإنه يستحيل أن يكون الدين الإسلامي دين تخلف، وتصادم مع العلم، والعقل، والمعرفة، فديننا دين علم يدعو للإيمان، ويضئ المسالك، ويهدي إلى أقوم السبل، وأوضح المعالم، وهو قادر على استيعاب تطورات العلم، ومستجدات الحياة، وإعادة صياغتها وفق ثوابت الدين، ومقاصد الشريعة. ولأنه قد تكرر منذ سنين عدة، وقوع جملة من الأخطاء، لا تعتمد على الرؤية الصحيحة، حيث لا تزال ثغرة نقص في صحة الشهادة، -لذا- كان لزاما أن يكون الشاهد العدل، ضابطا لما يشهد به، مع سلامة تلك الشهادة من القوادح اليقينية، ومن ذلك: «أن تكون الشهادة منفكة عما يكذبها حساً، وعقلاً». ومن المؤسف، أننا ما زلنا نتعسف كثيرا في هذا الباب، -من خلال- فتح الباب على مصراعيه؛ لقبول شهادة المترائين بالعين المجردة، ونعتمد على شهادة الشهود الذين لم يقفوا مع اللجان الرسمية، والاستفادة، والتنسيق مع تلك الهيئات العلمية، والمنتشرة في كافة أنحاء المملكة العربية السعودية، ك»مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، والأقسام الفلكية العلمية في جامعاتنا»؛ لتحقيق الرؤية الشرعية للهلال، والحد من الأخطاء التي تقع بشكل أكيد، والقضاء على هذا الوضع الذي يمثل التشرذم، والتشتت، والفرقة، ويحدث بلبلة في الرأي العام، -فضلا- على أنه لا يشكل مظهرا حضاريا أمام العالم، في الوقت الذي تيسرت فيه السبل بفضل التقدم العلمي، والتكنولوجي. -لذا-، فإن الاستئناس بعلم الفلك في معرفة موقع الهلال، وشكله، ومقدار مكثه في ضوء ما توفره التكنولوجيا الحديثة من معلومات وافرة، ودقيقة -مطلب مهم-، وحق مشروع للأمة. وعليه، فإن كل من أراد أن يتراءى الهلال، لا بد أن يكون بصحبة اللجنة الدائمة المختصة الرسمية، حسبما نصت عليه: «لائحة تحري رؤية هلال أوائل الشهور القمرية»، وتم اعتمادها من مجلس الوزراء. ولن نعذر عند الله، وعند خلقه، باعتماد منهج ظني غير منضبط، قُدّم على اليقين، فبناء الأحكام على الظن، رخصة يؤخذ بها حين يتعذر على اليقين، إذ لا يجوز -أبدا- الاعتماد في أمورنا الشرعية على الأسباب الظنية في النتائج، -والحال- أن لدينا وسائل نتائجها قطعية. إن قرارا صدر عن هيئة كبار العلماء في السعودية، برقم (108)، وتاريخ 2-11-1403ه، بجواز الاعتماد على المراصد، أوصى بإيجاد مراصد في عدد من مناطق المملكة، لكن القرار لم ينفذ على أرض الواقع. كما أن هناك قرارا صادرا من مجلس الشورى، برقم (11-5-18)، وتاريخ: 3-2-1418ه، وأؤيد بقرار مجلس الوزراء ذي الرقم (143)، وتاريخ: 22-8-1418 ه، بالموافقة على لائحة تحري رؤية أوائل الشهور القمرية، وتم اعتمادها من الملك، ونصت هذه اللائحة على ما يلي: المادة الأولى: ترائي الهلال، وتحريه حق لجميع المسلمين. المادة الثانية: المعتمد في دخول الشهر، وخروجه الرؤية الشرعية، حسب ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء. المادة الثالثة: تقوم وزارة الداخلية بتكوين لجنة، أو أكثر -حسب الحاجة- في المناطق، التي تكون مظنة لرؤية الهلال، تسمى «لجنة تحري رؤية هلال أوائل الشهور القمرية». المادة الرابعة: تكون هذه اللجان على النحو التالي: 1- مندوب من قبل الإمارة -رئيساً-. 2- أحد طلبة العلم من غير القضاة، ترشحه المحكمة -عضواً-. 3- مندوب من قبل مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم، والتقنية -عضواً-. وعلى اللجنة، أن تستعين بمن تراه من المعروفين بحدة البصر. المادة الخامسة: تتبع اللجان في مواعيد تحريها، وترائيها، ما يصدر عن مجلس القضاء الأعلى (سابقاً) من إعلانات طلب التحري. المادة السادسة: تختار كل لجنة أنسب الأماكن؛ لتحري الرؤية، في حالة وجود مراصد تابعة لمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم، والتقنية، أو تابعة للجامعات، فإنها تعد مكانا للتحري، وعلى مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم، والتقنية، والجامعات تسهيل ذلك. المادة السابعة: أخذ في الاعتبار ما ورد في الفقرتين الخامسة، والسادسة من قرار مجلس هيئة كبار العلماء ذي الرقم (108)، والتاريخ 2-11-1403ه، تؤمن مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم، والتقنية -عند الحاجة- مراصد متنقلة، ومناظير مكبرة في الأماكن، التي لا تتوافر فيها مراصد ثابتة. المادة الثامنة: تتولى مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم، والتقنية، إعداد جداول سنوية، أو أكثر، توضح مواعيد الاقتران «مولد الهلال» شهريا، ومواعيد شروق الشمس، والقمر، وغروبهما، وموقع الهلال، وشكله في مظنة رؤيته، ويتم إرسالها إلى -وزارتي- الداخلية، والعدل؛ لتوزيعها على الجهات المختصة. المادة التاسعة: تقوم الإمارة بإيصال شاهد الرؤية -من اللجنة، أو من غيرها- إلى أقرب بلد فيها قاض؛ لإثبات الشهادة. المادة العاشرة: مع مراعاة ما ورد في المادة السابعة، تؤمن الإمارة ما تحتاجه اللجنة من مستلزمات تتطلبها طبيعة عملها، بما في ذلك وسيلة النقل. المادة الحادية عشرة: يعتمد معدو تقويم أم القرى في حساب أوائل الشهور القمرية، على غروب الشمس قبل القمر حسب توقيت مكةالمكرمة، وتتخذ إحداثيات «خطوط الطول، وخطوط العرض»، المسجد الحرام أساسا لذلك. المادة الثانية عشرة: تتولى وزارة الداخلية متابعة تنفيذ هذه اللائحة. المادة الثالثة عشرة: تنشر هذه اللائحة في الجريد الرسمية، ويعمل بها من تاريخ نشرها. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: متى سيتم تفعيل مواد هذه اللائحة؟ كنت قد بينت في مقال سابق: أقوال أهل العلم -رحمهم الله-، عن احتمالات رؤية ما يشبه الهلال، وهو ليس هلالا. وذكرت أن أقرب هذه الاحتمالات، هو: رؤية الهلال قبل ولادته، وهي: «رؤية انعكاسية في الأفق خلف الشمس، وليست رؤية حقيقية»؛ لأن الهلال أمام الشمس لم يلد بعد. وقد فسّر -فضيلة الشيخ- عبدالله بن سليمان بن منيع -حفظه الله- هذه الحالة، بما يلي: «من المعلوم للجميع بالمشاهدة، أن الهلال يكون ناقص الاستدارة، ومقوسا حتى ليلة تمام القمر يوم خمسة عشر، وفي ليالي هذه الأيام، أي: في النصف الأول من الشهر، يكون نقص الاستدارة -فتحة القوس- من الشرق. وفي النصف الثاني من الشهر، ينعكس الأمر فتكون -فتحة التقويس- إلى الغرب، وتكون استدارة التقويس إلى الشرق. ويمكن استخدام هذه الظاهرة الكونية في معرفة الغرب، والشرق، إذا كان الإنسان في البر في الليل، واختلف عليه تعيين القبلة للصلاة، فبمعرفته الجهة، يستطيع معرفة القبلة، فمتى وجدت حالة رؤية الهلال قبل ولادته، فهذه حالة انعكاس أفقي للهلال، وهو متقدم على الشمس، ولهذا سيكون وضع الهلال بالنسبة للتقويس، وفتحة التقويس، هو وضعه في النصف الأخير من الشهر.. وتعليل هذه الظاهرة: أن تقويس القمر -دائما- يكون إلى قربه من الشمس، -سواء- أكان أول الشهر، أو آخره. ولو وجدت مناقشة لمدعي الرؤية، ومنها: أين قرناه الهلال؟ هل هما إلى الشرق، أم إلى الغرب؟؛ لظهرت حقيقة هذه الرؤية، هل هي انعكاس، أم حقيقة؟. فإن كان قرناه إلى الشرق، فهي رؤية حقيقية، وإن كان قرناه إلى الغرب، فهي رؤية انعكاسية. وهذا جواب عن هذا الإيراد، وتفسير لهذه الظاهرة، من أن الهلال قد يرى من بعد غروب الشمس، -والحال- أنه لم يلد بعد، فهذه رؤية سرابية، لا رؤية حقيقية، والله أعلم». -وبناءً على ما سبق-، فإن اعتبار عدالة الشاهد، هو شرط في قبول الشهادة؛ لكن لابد أن تكون هذه الشهادة منفكة عما يكذبها حسا، وعقلا، حتى يتم قبول الشهادة. فإذا قرّر علماء الفلك، مثلا: أن القمر يغيب قبل الشمس، وجاء من يدعي الرؤية، فيجب رد شهادته؛ لأن الشرط الثاني غير متحقق، وهو: «انفكاك الرؤية عما يكذبها حسا، وعقلا». وأذكر -ذات مساء-، أن -فضيلة الشيخ- عبدالمحسن بن ناصر العبيكان، روى لنا بعض القصص، وما يقع من الخطأ في تلك الشهادات. فقد حصل -منذ سنوات- أن شهد أربعة شهود، أنهم رأوا الهلال في تبوك، وسجلت تلك الشهادة، ورفعت إلى مجلس القضاء الأعلى، لكن لوحظ، أنهم شهدوا ب: أنهم رأوا الهلال معكوسا نوره في الأعلى، وهذا يتنافى تماما مع واقع الهلال؛ لأنه يستمد نوره من الشمس التي غابت في الأفق قبله. كما أن هناك رجلا في بلدة بنجد، كان يشهد برؤية الهلال، فلما عين أحد المشايخ الفضلاء رئيساً لمحاكم تلك المنطقة، لاحظ على الشاهد ضعف البصر، وكبر السن، فشك في أمره، فأراد أن يختبره، فطلب من الشاهد في أحد الشهور، أن يريه الهلال الليلة الثانية من الشهر، فلم يستطع رؤيته، على الرغم من كبر الهلال، ورؤية الجميع له، فهددّه رئيس المحكمة، إن هو شهد بعد ذلك بالعقاب. كما يروى عن شاهد في بلدة أخرى، أنه كان يقول: إنني أرى الشمس، والقمر يتسابقان في الظهيرة. -ولذا-، فإنني أطرح توصية إلى الجهات المختصة، في حق كل من أراد أن يتراءى الهلال، ب»ضرورة أن يكون بصحبة اللجنة الدائمة المختصة الرسمية مع وجود المرصد»، وذلك حسب ما نصت عليه لائحة تحري رؤية هلال أوائل الشهور القمرية، وتم اعتمادها من مجلس الوزراء. حتى يتم التأكد يقينا من صحة الرؤية، براءة للذمة، ونصحا للأمة، وحتى يطمئن المسلمون إلى صحة مواقيت عباداتهم، - من خلال- تحقق الرؤية الشرعية للهلال، إذ إنه لا يجوز أبدا الاعتماد في أمورنا الشرعية على الأسباب التقليدية الظنية في النتائج، -والحال- أن لدينا وسائل نتائجها قطعية، كما بينت ذلك في مقدمة المقال ؛ وليكون هناك اعتبار لرأي الهيئات العلمية، التي لديها علماء في علم الفضاء، والفلك، ويتم التنسيق بين الجهة المختصة بإثبات رؤية الهلال، وبين تلك الهيئات العلمية، وعلى رأسها: مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم، والتقنية، والأقسام العلمية في جامعات المملكة. وحول هذا المعنى -أي إثبات دخول الشهر، وخروجه على اعتبار الحساب، في حال نفي الحساب رؤية الهلال لغروبه قبل الشمس- يؤكد جمع من أهل العلم -رحمهم الله- ذلك. قال الشربيني -رحمه الله-: «لو شهد برؤية الهلال واحد، أو اثنان، واقتضى الحساب عدم إمكان رؤيته. قال السبكي: لا تقبل هذه الشهادة، لأن الحساب قطعي، والشهادة ظنية، والظني لا يعارض القطعي». وقال تقي الدين السبكي -رحمه الله-: «إن الحساب إذا دل بمقدمات قطعية على عدم إمكان رؤية الهلال، لم يقبل فيه شهادة الشهود، وتحمل على الكذب أو الخطأ..؛ لأن الحساب قطعي، والشهادة، والخبر ظنيان، والظن لا يعارض القطع، فضلا عن أن يقدم عليه. والبينة شرطها: أن تكون ما شهدت به ممكناً حساً، وعقلاً، وشرعاً». وقال -الشيخ- مصطفى الزرقاء: «فإذا ورد النص معللا بعلة، جاءت معه من مصدره، فإن الأمر يختلف، ويكون للعلة تأثيرها في فهم النص، وارتباط الحكم- وجوداً وعدما- في التطبيق». وقال -الشيخ- أحمد شاكر -رحمه الله-: «قد كان للأستاذ الأكبر -الشيخ- المراغي، منذ أكثر من عشر سنين، حين كان لرئيس المحكمة الشرعية رأي في رد شهادة الشهود، إذا كان الحساب يقطع بعدم إمكان الرؤية، كالرأي الذي نقلته هنا عن تقي الدين السبكي. وأثار رأيه هذا جدلا شديدا، وكان والدي، وكنت أنا، وبعض إخواني ممن خالف الأستاذ الأكبر في رأيه. ولكني أصرح الآن بأنه كان على صواب، وأزيد عليه: وجوب إثبات الأهلة بالحساب في كل الأحوال، إلا لمن استعصى عليه العلم به. وما كان قول هذا بدعا من الأقوال، أن يختلف الحكم باختلاف أحوال المكلفين، فإن هذا في الشريعة كثير, يعرفه أهل العلم، وغيرهم». يتبن مما سبق من كلام أهل العلم -رحمهم الله-: ضرورة الأخذ بالرؤية الشرعية، والحساب الفلكي في تحديد بدايات الشهور القمرية. وأن نأخذ بعلم الفلك في النفي دون الإثبات، وذلك جمعا بين النصوص الشرعية، والاستفادة من علم الفلك. وما يشاع عند بعض الناس، أن علماء الفلك مختلفون فيما بينهم، فهذا ليس صحيحا على إطلاقه. فعلماء الفلك مجمعون على: تحديد وقت اقتران القمر بالشمس بالنسبة للرائي من الأرض، كما أنهم مجمعون على: تحديد وقت ولادة الهلال، كما أنهم: لا يختلفون في معرفة غروب الشمس قبل القمر، أو غروب القمر قبل الشمس بالساعة، والدقيقة في أي مكان من الأرض. كما بيّن ذلك -فضيلة الشيخ- عبدالله بن سليمان بن منيع -حفظه الله- حيث أوضح: «أن الاختلاف بين علماء الفلك، في أمرين اثنين -فقط-، أحدهما: في حال الاتفاق على ولادة الهلال قبل غروب الشمس، وغروب الشمس قبل القمر. فإن علماء الفلك مختلفون في إمكان الرؤية، من حيث اختلافهم في تقدير درجة الزاوية الأفقية للهلال، ومن حيث درجة بعده عن الشمس، ومن حيث الزمن بين الولادة، ووقت الترائي. وهذا الاختلاف لا تعلق له بولادة الهلال، ولا بغروب الشمس قبل القمر، أو بعده. والذي يظهر لي: صرف النظر عن مسألة إمكان الرؤية، -فطالما- أن الهلال مولود، وأن الشمس غربت قبل، فيجب الأخذ بأي رؤية تثبت. -سواء- أكانت رؤية بالعين المجردة، أم كانت رؤية بواسطة المكبر؛ لأنها رؤية ممكنة منفكة عما يكذبها. الثاني: الاختلاف في تعيين الوقت الذي يبدأ فيه ليل أول يوم من الشهر، أو ينتهي به ليل آخر يوم من الشهر. توضيح ذلك: أن غالب الفلكيين في العالم، يعتبرون المقياس التوقيتي ساعة جرينتش، فيقولون: إذا ولد الهلال قبل الساعة الثانية عشرة -مساء- بتوقيت جرينتش، فإن هذه الليلة، هي ليلة أول يوم من الشهر التالي، وإذا كانت ولادة الهلال بعد الثانية عشرة -مساء- بتوقيت جرينتش، فإن هذه الليلة، هي ليلة آخر يوم من الشهر الحالي. والمملكة -حرسها الله-، أصدرت قراراً من مجلس الوزراء باعتبار مكةالمكرمة مركز التوقيت. فمتى غربت الشمس قبل غروب القمر، فإن الليلة بعد غروبه، تعتبر ليلة أول يوم من الشهر التالي. وإن غرب القمر قبل الشمس، فإن الليلة بعد غروب الشمس، تعتبر ليلة آخر يوم من الشهر. -ولاشك- أن قرار مجلس الوزراء قرار متقيد بالمقتضى الشرعي، بأن أول اليوم ليلته. وقد أخذت بهذا القرار، لجنة تقويم أم القرى في جميع تقاويمها لكل سنة. -ومن خلال- تطبيق هذا الاصطلاح من الطرفين المختلفين في تحديد الوقت، يتضح وجه الاختلاف، وأنه لا علاقة له بتحديد وقت الاقتران، ولا وقت الولادة، ولا الاتفاق على تحديد وقت غروب القمر، ووقت غروب الشمس منكان الترائي». ما ذكره فضيلة الشيخ عبدالله بن منيع، صحيح، فعلماء الفلك: مجمعون على تحديد وقت اقتران القمر بالشمس بالنسبة للرائي من الأرض، وهم مجمعون -أيضا- على تحديد وقت ولادة الهلال، كما أنهم لا يختلفون في معرفة غروب الشمس قبل القمر، أو غروب القمر قبل الشمس بالساعة، والدقيقة، في أي مكان من الأرض. فتلك الحسابات دقيقة، لدرجة تكون فيها «نسبة الخطأ شبه معدومة»، وخذ على ذلك أمثلة، منها: حسابات الكسوف، والخسوف، التي تستطيع تحديد أوقاتها بعد عشرات السنين باليوم، والساعة، والدقيقة، وتحديد الأماكن التي يُرى منها، وكم سيستمر، وهل سيكون كليا، أم جزئيا؟ وفي تحديد أوقات الصلوات الخمس، ووقت شروق الشمس، وغروبها، والزوال، وانتصاف الليل بالدقيقة، والثانية. إن جاز لي أن أختم بشيء، فهي الإشارة إلى سبب الإشكال في موضوع الأهلة، الذي يتكرر في كل عام، -لاسيما- تلك الشهور المرتبطة بالعبادات. وعدم الاعتبار لرأي الهيئات العلمية التي لديها علماء، ومختصون في علم الفلك، وحقائق الكون، ودقائقه. هو ما أوضحه -فضيلة الشيخ- عبدالله بن سليمان المنيع -حفظه الله- بأن السبب، هو: «عدم الاعتراف للآخرين بحق القول، والركون إلى تزكية النفس، وعدم اتهام الرأي، والبعد عن مبدأ التحقق، والتثبت، والتواصي بالحق، من حيث البحث عنه. فمتى تنازلنا عن دعوة صحة توجهنا، وعملنا بقوله تعالى: «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون»، وبقوله تعالى: «فتبينوا»، إذا تم منا ذلك، واجتمعنا بعلماء الفلك، واستمعنا إلى ما لديهم، وطرحنا أمامهم إشكالاتنا، وتبادلنا معهم القول، أمكننا أن نصل إلى ما يقضي على مشكلة الرؤية للهلال». ألا يحق لنا أن نتساءل بعد ذلك كله، وبإلحاح: متى سيتم الاستفادة من علم الفلك، الذي يُعتبر من أهم العلوم الكونية، ومن أهم وسائل الإثبات في دخول كل شهر، وخروجه؟ وهل سيعجز علماء الأمة عن ابتكار الوسائل المتقدمة؛ من أجل تحقيق المقصود الشرعي لرؤية الهلال؟ كم أتمنى أن يتفق أهل الحل، والعقد في بلادنا؛ لدراسة هذه المسألة المهمة، وإيجاد الحلول؛ لردم الفجوة بين علماء الشرع، وعلماء الفلك، والاعتراف بعلم الفلك، ونظرياته، ونتائجه، وبين النصوص الشرعية؛ من أجل الاعتداد بالرؤية الشرعية، -لاسيما- تلك الشهور المرتبطة بالعبادات، كشهر رمضان، وشهري -ذي الحجة ومحرم- وغيرها من الشهور، فهل نحن فاعلون يا فضيلة الشيخ؟