ولدتُ وترعرعت ونشأت وعشت وتربيت وخلقت في هذه الدنيا لا أعرف أحداً سوى اليتم، وحيداً لا صاحب لي، كسيراً لم أجد من يجبر كسوري، حزيناً لا أجد من يعالج ويخفف حزني، كئيباً تداهمني الهموم والغموم والقلق والخوف والحسرة والألم، فأبحر كل يوم بعقلي وخيالي وتفكيري وذهني، بل في كل ساعة وثانية ولحظة، في بحار مظلمة وعميقة وواسعة وفسيحة دون أن أتقن فنون الغوص والسباحة! تتلاطمني الأمواج العالية والعاتية وتنتقل بي ذات اليمين وذات الشمال دون طوق نجاة ودون الوصول لمقصدي وغايتي وهدفي من هذه الحياة، حدودي ومساحتي ضيقة ولا تتسع أحداً غيري أبحث وأقلب عن ذاتي عن نفسي عن إمكاناتي وقدراتي فأكون عرضة دائمة للهموم والغموم والمآسي والأحزان والمخاوف والكوابيس، أخاطب نفسي وعقلي وذهني وخيالي، وتشاطرني وتشاركني دموعي والألم والحسرات والبؤس والشقا والمجهول والغموض، فأبكي دون شعور وبلا دموع، ويعتصر قلبي الوجع الذي لست أعلم سببه وعلاجه والخلاص منه. تنتابني حالة دائمة من التفكير وشرود الذهن والخروج عن مألوف الحياة فأشعر بحالي ونفسي وأطراف جسدي تتحرك وتدب فيها الحياة، يتحرك فيها دمي الحار، أتلمسها أضمها أحتضنها أشاطرها أقف بجانبها أقبلها ثم أرضى عنها وأتقبل الأمر الواقع، أقتنع بنصيبي وقدري على سكة هذه الحياة، أبتسم ثم أضحك ثم أرفع صوت ضحكي بدون شعور وأتذكر باقي الأطفال وأعيد ذات السؤال على نفسي: لماذا أنا وحيد وهم برفقة آبائهم وأمهاتهم؟ يرافقونهم ليل نهار يلعبون معهم ويمازحونهم ويضحكون من ضحكتهم يعطفون عليهم ويحنون على طفولتهم ويمسحون رؤوسهم ويراقبون كل صغيرة وكبيرة وشاردة وواردة تخصهم، كبرت وتقدم عمري فزادت مخاوفي وغموضي وقادم أيامي، حاولت واجتهدت وكافحت وبذلت كل ما في وسعي كي أعوض طفولتي التي قضيتها بين أحضان التفكير والغربة والشرود والحسرة والمعاناة والدمعة، نعم تمكنت من تفسير سبب كل ما حصل لي بعد عدة سنوات، لم أذق فيها أي معنى من معاني السعادة والفرحة التي يحصل عليها أي طفل. أنا اليتيم الذي فقد معاني ولذة وسوار الأسرة السعيدة، فقد وجود وهيبة وسلطة الأب، فقد حنان وصدر وعطف الأم، أنا قد نلت حقوقي كاملة من ولاة أمر بلادي، تعلمت درست نجحت، لبست أكلت شربت وعشت حياة كريمة مطمئنة، ومازلت أفكر في مزيد، أفكر في أني مخلوق وعضو فاعل وصالح ومهم في المجتمع، لي كياني ولي شخصيتي ولي استقلالي ولي وجودي، لم تعد تهمني قضية البحث عن الأب والأم والإخوة والأخوات والأقارب والأصحاب والزملاء والأحباب، كل ما يشغل تفكيري حالياً هو أن يتم توظيفي وأن أكمل نصف ديني وأن أتزوج شريكة حياتي وأن تتلذذ آذاني بسماع كلمة وعبارة بابا ماما تصدح في أرجاء منزل أسرتي، فهذه خاطرتي والسلام.