من جدران الحمامات إلى أروقة المنتديات، تلك حكاية مجد يبنى في تاريخ الحريات!. عندما كانت مساحة الحرية ضيقة، أو بالأصح أدوات نشر الرأي شبه معدومة، كانت جدران دورات المياه أبرز وسائل النشر الحر، فأثناء دراستي في المرحلة المتوسطة، كانت جدران دورات المياه أشبه بصحيفة، فذاك الطالب الذي أحس بالظلم من معلمه يكيل له سيلاً من الشتائم، وآخر تأذّى من زميله يفرغ على الجدار شحنة القهر والألم، فضلاً عن الكثير من الكتابات حول الحب والجنس، والتي حُرِّمت، وتركت محبوسة في دواخلهم دونما تعليل ولا توعية. وعندما انتقلت إلى المرحلة الجامعية، وجدت الكثير من الكتابات التي اتسعت مجالاتها، فكان بعضها ذا صبغة سياسية أو اجتماعية، بل كانت تلعب أحياناً دور وسيلة إيصال صوت الطالب الجامعي والدفاع عن حقوقه. في ظل غياب جمعية طلابية أو رابطة تعنى بحقوق الطلاب، كما لم تخلُ من النصائح الدينية، وكذلك هو الحال في دورات المياه على طرقات السفر، والتي أدعو الله أن يجنبكم الاحتياج إلى زيارتها!، فكانت مزيجاً بين الكثير من الثقافات. ومع مرور السنين، وبظهور الشبكة العنكبوتية، ظهرت أدوات نشر سهلة ومبهرة، وظهرت المنتديات العربية، وظهرت معها ثقافة (الاسم المستعار)،التي أصبحت وما زالت عادة، وإن كسر الفيس بوك تلك القناعة وبدأ الكثير من رواده يظهرون بأسمائهم الحقيقية. لقد منح الاسم المستعار لصاحبه قناعاً، أو ربما أعطاه فرصة لخلع قناع والظهور بشخصيته المكبوتة، فحدثت ثورة مهولة في وسائل النشر وبث الأفكار ووجهات النظر، واتسع هامش الحرية بشكل كبير، لكن في المقابل لم يصاحب تلك الثورة ثورة أخرى في وعي وثقافة القارئ والمتلقي، وذلك أمر طبيعي، كون ثقافة الوعي تحتاج إلى تسلسل زمني يمنحها النضوج، فكانت المأساة، وظهر الكثير من أنصاف المتعلمين من المنظرين والمحللين والسياسيين والاقتصاديين وحتى المجانين، وكان المتلقي يستقي من هنا وهناك دونما وعي ولا توجيه، حيث وجد ما يلامس مشاعره ويوافق عقله. ولعلي أستشهد بما حدث في سوق الأسهم في السنوات الماضية، وقبل الانهيار الكبير، حيث كان الناس يقبلون على الاقتصاديين الجدد أو الدخلاء على عالم الاقتصاد، لأنهم خاطبوهم بلغة مبسطة مفهومة تعيها عقولهم، كما لامسوا مشاعرهم بكلمات واضحة حول الربح والخسارة، فاستجاب الناس لهم، وليسوا بملامين فوقعت الكارثة، بينما ظل الاقتصاديون الأكاديميون في أبراجهم العاجية، يخاطبون الناس بلغة المؤشرات والشموع اليابانية، ومصطلحات مبهمة ولغة أكاديمية متعالية فلم يلتفت لهم أحد!.وكذلك هو الحال مع بقية المثقفين وأصحاب الرأي والعلماء والأطباء، الذين لدى الكثير منهم قصور وخلل في الوصول إلى المتلقي بلغة مبسطة، وكالعادة ترمي الأئمة على التقنية فندعو على من طورها، ونجلد ذواتنا ونكيل لأنفسنا الشتائم، كوننا شعباً غير واعٍ، وفي الوقت ذاته لا نحرك ساكناً ولا نبذل مجهوداً في نشر ثقافة الوعي لدى المتلقي.ومن هنا أوجه رسالة إلى كل مثقفينا ومفكرينا، وحتى علماء الدين بالكف عن توصيف المشكلة، بأننا شعب غير واعٍ، وذلك في حواراتهم واجتماعاتهم المغلقة، وفي النوادي الأدبية والملتقيات الفكرية المنعزلة، بل يتوجب عليهم النزول إلى العامة، ومخاطبتهم بلغة مبسطة، ومحاولة إيجاد حلول لردم الهوة بينهم، بل الإسهام في إثراء الشبكة المعلوماتية بالمحتوى العربي الجيد. علينا أن نعي أن قطع الطريق على أصحاب الكتابات المغرضة، والأفكار الهدامة، وناشري الشائعات، ومشوهي الحقائق، والدخلاء على الدين والعلم والثقافة، ليس بمطاردة مواقعهم على الشبكة، فالأمر بات مستحيلاً، بل بإيجاد محتوى راقٍ يبث ثقافة الوعي لدى المتلقي، وعلينا ألا نتعجل النتائج، فالأمر لن يكون بين عشية وضحاها، بل سيكون هناك تغير تدريجي، وسنرى ثماره في الجيل الناشئ بمشيئة الله.