أقرأ يوميا على الشبكة العنكبوتية كثيرا من التعليقات والحوارات فأجد في بعضها ما يستوقفني ويشدني لعمقها ووجاهتها بغض النظر عن اتفاقها أو اختلافها مع المادة الأصلية التي تعلق عليها، بل إن بعضها يجعلني أقول رب قارئ أوعى من كاتب، بينما أجد في بعضها الآخر ما يجعلني أقول رب قارئ لم يفهم لأنه يعلق في واد وما يعلق عليه في واد آخر، وهناك تعليقات بمثابة – الإكليشيه – الثابتة يكررها أصحابها في كل مكان ومع كل كاتب أو مادة ، وهذا النوع يجعلني أقول رب قارئ لن يفهم لأنه لا يريد أن يفهم ، فهو مقيم ما أقام عسيب على فهمه العتيد الذي لن يتغير أبدا، وأعتقد أن النوع الأول ينمو بينما الأخيران في تناقص مستمر. لقد أتاح فضاء النت الرحب فرصة لقراءة عقول الناس حتى وإن كان الكثير منهم متخفيا خلف اسم مستعار، فهو في النهاية عقل بشري يعرض بضاعته على الناس ، وإمكانية التخفي تعطيه الفرصة كاملة لأن يعرض ما لديه بجرأة وصدق متناهيين، فهو غير مجبور لأن يعرض ما لديه وهو غير معروف ليخشى من الآخرين وبالتالي يأخذ حريته كاملة في التعبير والرأي، وأنا هنا لا أقصد الشتامين الذين تمنع بعض المواقع المحترمة نشر مشاركاتهم، وإنما أقصد الذين لديهم ما يقولونه دون شتيمة، فهؤلاء يجدون المجال مفتوحا على أوسع نطاق، وهؤلاء هم الذين يمكن للصحف – ورقية وإلكترونية – أن تعتمد على بعضهم في تطوير أدائها، كما يمكنها أن تنتخب من بينهم موهوبين يصلحون للكتابة والصحافة دون أن يشعروا بمواهبهم أو إمكاناتهم الثقافية والمعرفية، وهؤلاء هم الذين يمكن لبعض الدراسات أن تستفيد منهم في قياس الوعي العام، وفي معرفة التحولات الفكرية والثقافية التي تعتري المجتمع، وهي تحولات هائلة. لقد قلت في مقالات سابقة منذ بضعة أشهر إنني لاحظت تغييرا جوهريا فيما يتعلق بما يكتب على الشبكة العنكبوتية بين سنوات خلت وبين ما يحدث الآن وذلك لمصلحة الوعي والنضج حتى وإن كان بطيئا. ولو تأمل أحدكم فسيجد أن حتى تلك المواقع الحوارية التي قامت على الشتائم تقلصت أو تغيرت إلى الأفضل، وحتى ما بقي فيها من شتامين أصبحوا محاصرين ببعض الأصوات العاقلة التي تسفه فعلهم وتدعوهم إلى العودة إلى جادة الصواب، وهذا يؤكد أن الحرية تعالج أمراضها، وأنها تعطي العقل البشري في الغالب فرصة لأن يختار الأفضل. والأفضل دائما هو ضوابط الحرية الأخلاقية التي لابد أن يحتاجها كل عقل سوي، وهذه بديهية، لكن ما حدث سابقا من انفلات وما يحدث الآن من تطور على هذه الشبكة يؤكد الفرق بين الضوابط المفروضة بالقوة وبين تلك التي تكون نتيجة قناعه شخصية. في ميدان حرية الرأي والتعبير تعطينا الشبكة العنكبوتية دليلا ساطعا على أن الكبت هو الذي يهدد الحياة وأن العلاج يكمن في الحرية، والحرية تربية وها هو – النت – ينبهنا إلى قيامه بالدور الذي عجزنا أو تخلينا عنه في عالمنا العربي مجتمعات ودولا، الغرب بمذهل ابتكاراته يعلمنا من حيث نشعر أو لا نشعر كيف يجب أن نعيش، وليتنا نتعلم.